أبو يعرب المرزوقي
.
اخترت اليوم هذا النص لابن خلدون ليتدبره القاريء من شباب الثورة. فلعل ذلك يحيي في الجيل الحالي الوعي الدقيق الذي كانت السنة عليه بطبيعة الحكم المدنية بإطلاق والنفي القاطع لعقيدة الحكم الشيعية بالحق الإلهي.
والنص الخلدوني مهم لأنه لا يكتفي بإثبات الرؤية السنية للحكم بل هو ينفي الرؤية الشيعية بالوقائع التاريخية وليس بمجرد الجزم العقدي.
والوقائع التاريخية التي يذكرها ابن خلدون ليست مجرد رواية لمواقف بل هي أحداث حصلت وما تزال آثارها قائمة إلى الآن وأعداء الرؤية السنية هم أنفسهم يثبتونها بموقفهم من الصحابة.
فاعتبارهم الصحابة قد خانوا الأمانة لأنهم لم يؤدوا خلافة علي اعتراف واضح من الشيعة بأن الخليفة الرابع لم يحصل على الأغلبية في البيعة التي اعتمدها ليصبح خليفة وهو ما أدى إلى الحرب الأهلية التي تسمى الفتنة الكبرى.
وقد ذكر ابن خلدون في كلامه على الفتنة الكبرى ثلاثة أمور سنتكفي بثانيها لأنه فيه يعرف مفهوم الحكم السني ويقابله بمفهومه الشيعي مستدلا على أن الوصية من الأكاذيب الملفقة.
فأما الأمر الأول فيتعلق بالتعليل السياسي لتغير نظام الحكم بعد معاوية اعتمادا على فلسفة في التاريخ التي يقول بها ابن خلدون والتي تعتبر القاعدة العامة في الحكم ليست الاستثناء النبوي -الشرعية متقدمة على الشوكة- بل هي تقديم الشوكة على الشرعية.
القاعدة هي أن اساس الحكم دائما هو توازن القوى السياسية التي يرجعها ابن خلدون لنظريته في الشوكة المستندة إلى التوازن بين العصبيات.
وأما الأمر الثالث فهو الكلام في الحروب التي نتجت عن الفتنة الكبرى وضرورة قلب الصفحة بخصوصها مع تقديم التعليل الفلسفي والديني لاعتبار تلك الخلافات السياسية لا تقتضي تجريم أي من أطرافها.
وأساس هذه النظرة هو مفهوم في ما لا مساس له بالعقائد. وقد سماها بمبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي. ففيه لا يخلو الأمر من أحد حلين :
1. فإما لا نعلم فيه من المصيب فيها على وجه التحديد حتى لو كان في الاجتهاد مصيب ومخطيء.
2. أو أن الكل مصيب في الاجتهاد السياسي لعدم مساسه بالعقائد.
لكن الأصوب في الاجتهاد السياسي لا يتعلق بحقيقة مطلقة بل بحقيقة نسبية تتمثل في نسبة الحق لمن يحصل على غالبية الجماعة فتحصل له الشوكة ليكون هو الحاكم الشرعي بمقتضى قانون السياسة.
وما يعنينا من نص ابن خلدون قسمه الأوسط الذي يورد فيه دحضه للنظرية الشيعية في الحكم بمقتضى الحق الإلهي.
وفيه خمسة أدلة كافية وشافية وتنتهي بتعريف طبيعة الحكم في الدولة الإسلامية كما يحددها الفكر السني الذي يدحض مفهوم الحكم بالحق الإلهي واعتباره جزءا من العقيدة.
وأهم تعريف للحكم تعريف فلسفي وديني في آن. وقد تمثل في عبارة وجيزة من أبلغ ما قيل في تعريف الحكم بوصفه ظاهرة اجتهادية مفوضة لنظر الجماعة. إنه إدارة الدولة أو منظومة المؤسسات المدنية التي تعنى بالشأن العام أو المصالح العامة إدارة اجتهادية “مفوضة إلى نظر الخلق”.
نص ابن خلدون
«والأمر الثاني هو شأن العهد من النبي صلى الله عليه وسلم وما تدعيه الشيعة من وصية لعلي رضي الله عنه.
1. وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أيمة النقل. والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من دليل فدليل واضع على أنه لم يقع.
2. وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد قال : إن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد.
3. وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى علي من ذلك وقال : إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر. وهذا دليل على أن عليا علم أنه لم يوص ولا عهد لأحد.
4. وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون. وليس كذلك. وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق.
5. ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصلاة.» المقدمة الباب الثالث الفصل 30 في ولاية العهد.