الطفل والبحر.. من هدير الصورة…

نور الدين الغيلوفي

1. طفلٌ وبحرٌ.. يحتفظ التنكير بتسمية الصورة.. لا تحتاج الصورة إلى اسم لها.. هي في ذاتها وَسْمٌ.. ولتذهب الأسماء إلى حيث يسرقها البغاةُ..

2. تظل الصورة الجامدة شاهدة على أنّ الحياة أقبلت وأعرضت لمّا وقعت سهامها وسرعانما انسلّت من الصبيّ حين قرّر الانسحاب من حياة تركتها الغواية لمّا أضاعها الرشاد…

3. قرّر الصبيّ النهاية قبل اعتناق البداية.. لقد خبر الحياة، قبل البلوغ، كعبقريّ لم يقنع بأن يمتحنه من هم دونه منزلة، في منازل الهدم، فقرّر تسليم ورقة الامتحان ولا شيء بها غير توقيعه.. تلك صورته.. توقيع مغادرة يضعه عبقريّ بلا عمر على جدران التاريخ الماكر…

4. لم يركب الطفل بحرا وأنّى له والحياة بعد تحتفل باستقباله.. أو لعلّه هو عينه ذاك الفتى الذي ظلّ يرافق شيخ همنغواي في ملحمته الشهيرة “الشيخ والبحر”.. أو لعلّه ذاك الهيكل المتبقّي من وليمة حيتان القرش الشرهة تنهش حصيلة الشيخ من حياة خاتلتها المعاني.. لقد عاد الطفل بصيد وفير كما لم يعد شيخ الرواية.. عاد بالمجتمع الدولي وفي عنقه منه شهادة ستظلّ عالقة به تخنقه ما دام على الأرض نبض حياة.. لقد أسند الفتى للإنسانية شهادة زورها.. ومضى…

5. تخاصمت الحياة فيه والموت.. قست الحياة عندما كانت حربا وصراعا بلا معنى وعداوات قاتلة لا يفهمها وليس معنيا بفهمها.. فأقبل الموت المتربّص يقترح رحمته على طفل أسلمته الحياة للقراصنة يدبّرون شأنه ويديرون عمره القصير.. اختصموا ولم يحسنوا إدارة خلافاتهم.. في أتون صراعهم الشقيّ المشقي طردوه من أرضهم فالتحق بالبحر يسأله تأويلا لولادته بين هاتيك الوحوش الموزّعة بين اللحيّ الطويلة والقمصان القصيرة وربطات العنق الوثيرة…

6. يستلقي الطفل على وجهه في ختام الرواية كأنه يحضن الشاطئ يستبقي ملوحة الماء الذي أشرقه حتى أغرقه.. اشتعلت نار الملح في الحشا فاحتمله الموج زبدا خفّ حمله وقد بخس ثمنه يوم أن دقّت الحرب عظام قريته وحولتها يبابا كأنها بما فعلت تستعيد أساطير الأوّلين…

7. لقد بقيت صورتك لعنة على وجوه تنشر الموت في الأرجاء.. حصادها واحد وإن تعدّدت أسماؤها وإن تمايزت عناوينها.. عجزوا عن صناعة الحياة فاجتمعوا على نشر الموت.. لقد مضيت وبقيت صورتك صاخبة أسمع من هدير صمتها صرخة العبسيّ:

واختر لنفسك منزلا تعلو به..

ولقد علَوْتَ بنفسك تحضن نهايتك وتسلم روحك ماء تجهل سطوته في حين تساقط الهباء من حولك تزكمنا رياح حقارته..

لن ننسى جريمة من أسلموك…

Exit mobile version