مقالات

تونس بعد شهرين من انتخابات 2019: دولة بلا ملامح سياسية، برلمانا ورئاسةً وحكومة

عبد الرزاق الحاج مسعود

مقدّمة:
كان من “المفترض” شعبيّا على الأقلّ، أن يخرج البديل الديمقراطي من رحم حركة النهضة أو من الدوائر التي تحالفت معها في تجربة حكم سريعة (من ديسمبر 2011 إلى جانفي 2014) بعد الثورة مباشرة، فإذا بانتخابات 2019 تحدث خلطا جديدا شبه جذريّ لمعادلة 2014 وتعيد تشكيل المشهد الحزبي ومشهد الحكم بما يمهّد لتطوّرات يحدسها الجميع ولا يملك أحد تأكيد اتجاهها. الثابت الوحيد أنها تطوّرات ستمسّ شكل الدولة وتحدّد مستقبل ديمقراطية تونسية بالكاد تحسّس الناس ملامحها في خضمّ انهيار اقتصادي وفساد منفلت ومستهتر بديمقراطية هشة ومنقسمة ومستهدفة ممّا جعل طعمها في أفواه الفقراء لا يقلّ مرارة عن الاستبداد.

1. برلمان ضعيف الصلة بفكرة السياسة:

البرلمان الحالي “مركّب/مفبرك” على نحو يعطي صورة مفزعة عن طبيعة العوامل المحدّدة لاختيارات الناخب التونسي في غياب شبه كلّي لفكرة السياسة. القوّتان السياسيتان الأولى والثانية تمثلان حالتين شديدتي الخصوصية ومشوّشي الانتماء إلى التفكير السياسي الذي تحتاجه الدولة، فما بالك بعد ثورة.

1. القوّة الأولى هي حركة النهضة. حصلت على 52 نائبا بما يشبه “معجزة” فاجأتها هي نفسها، فقد كانت الحركة متأكّدة، حسب كل الاستطلاعات، من تراجعها في نوايا التصويت بعد خمس سنوات من الحكم/ اللاحكم مع شبح حزب نداء تونس. خمس سنوات كاملة راوحت فيها الديمقراطية مكانها فلم تتقدّم خطوة واحدة في الإنجاز الإقتصادي والاجتماعي بسبب حدّة الصراعات السياسية داخل حزب نداء تونس. الحزب الذي تشظّى مباشرة بعد فوزه بانتخابات 2014 وبقي “شبحه” في الحكم مسنودا من حركة النهضة (المتماسكة برلمانيا) منعا لانهيار متوقّع ووشيك كلّ يوم لمنظومة حكم هشّة تكوّنت بتسوية غامضة لا يعرف تفاصيلها أحد، لا حينها ولا الآن، ولا حتى طرفاها الأوحدان ربّما. خمس سنوات انتهى خلالها نداء تونس ووصلت في نهايتها حركة النهضة الموعد الانتخابي منهكة من حكم / لاحكم، ومنقسمة في العلن لأوّل مرّة في تاريخها نتيجة الصراع حول الديمقراطية الداخلية المغدورة أثناء تشكيل القائمات الانتخابية البرلمانية، ثمّ حول اختيار مرشّح رئاسي من داخل النهضة أو من خارجها كما كان يقتضي العنوان السياسي الناظم لسلوك النهضة منذ 2011 والذي يقضي بعدم تصدّر واجهة الحكم في تونس.

كانت النهضة مستسلمة لتراجعها الحتميّ والثابت إحصائيّا مع كل محطة انتخابية منذ 2011، لولا أن خصومها تشرذموا كما لم يتوقّع ألدّ أعدائهم (كتلة ناخبي النداء سنة 14 وجدت نفسها أمام قرابة خمسة أحزاب متفرعين عن النداء وعشرة مرشّحين للرئاسة)، ولولا أن ظهر في المشهد “حزب” منافس جديد صاعد في نوايا التصويت رئيسه مُلاحق قضائيا بتهم فساد وتبييض أموال، بحيث قدّم لحركة النهضة فرصة نادرة لتبنّي خطاب انتخابي تعبوي على قاعدة “أخلاقوية” شعاراتية، إضافة إلى انتشار حديث في صفوف قواعدها عن خطر قريب محدق بالحركة في حالة هزيمة انتخابية كبيرة.

في سياق انهيار النداء و”التخويف” من خطر محدق ودغدغة الضمير الأخلاقي “الغرائزي” نجحت النهضة في لملمة جزء مهمّ من جسمها القديم وفي إثارة “فزع” جزء من الذين انفضوا عنها (في اتجاه “ائتلاف الكرامة” أساسا الذي تشكّل من داخل حزامها الانتخابي المحافظ دينيا) والفوز بأغلبية برلمانية (52 مقعدا) تتجاوز ما توقّعته هي نفسها بكثير. لكنها أغلبية ضئيلة لا تمكّن النهضة من الحكم، والأخطر أنها أغلبية “مصطنعة” أنتجتها “فزعة” ضعيفة الصلة بالسياسة بما هي بدائل وبرامج حكم.

فضلا عن أن حركة النهضة تعاني بنيويّا منذ نشأتها من التباس العلاقة بين مرجعيّتها التأسيسية الدينية وفكرة السياسة “المدنية” الحديثة بما جعلها تشعر بحرج هذه العلاقة وتحاول التخلّص من غموض “إسلامها السياسي” بأن أصرّت على تضمينه في دستور 2014 كمرجعية “إشكالية” لهوية الدولة، لتقدّم نفسها منذ مؤتمرها الأخير باسم “الإسلام الديمقراطي”. تسمية “هلامية” بدورها لم تمنع حركة النهضة من استلال سيف الفقه في معاركها السياسية كلّما استدعى الأمر ذلك (كما حصل في معركة المساواة في الإرث)، بما يحافظ على ضعف الهوية السياسية للحزب/ الحركة/ التنظيم الأكبر في البلاد.

2. يزداد البعد عن السياسة حين ننظر إلى القوة البرلمانية الثانية بعد كتلة النهضة. قوّة “جديدة” قوامها 38 نائبا برلمانيّا يمثّلون كيانا حزبيا جديدا اسمه “قلب تونس” أنشأه صاحب قناة تلفزية/ واجهة تخصّصت منذ سنوات في بثّ “مساعداته” العينية للفقراء والدعاية الفجّة لشخصه “الحنون” وتقديمه على أنه “المخلّص” القادم على مهل بعصا السحر/ المال ليقضي بمفرده على الفقر. بهذا الخطاب الذي لا يمتّ بصلة للسياسة أزاح رئيس “قلب تونس” كلّ الأسماء السياسية ذات الرصيد العملي والنظري الهامّ منذ مرحلة مقاومة الاستبداد (رغم كلّ ما يمكن أن يقال عن أخطاء السياسيين التونسيين بكل انتماءاتهم)، ليفوز بالمركز الثاني في انتخابات الرئاسة بعد قيس سعيّد (الظاهرة اللاسياسية الأخرى التي سنأتي على ذكرها لاحقا) ويمرّ -من داخل سجنه، إذ كان موقوفا خلال الحملة الانتخابية- إلى الدور الثاني في مشهد “سريالي” غيّر جذريّا مفردات الخطاب السياسي التونسي وجعله أقرب إلى “كوميديا سوداء” شاهد التونسيون “تصعيدها الدرامي” وذروة “مفارقتها” في المناظرة التلفزية بين مرشّحَيْن كوميديّين ضعيفي الصلة بالسياسة في بلد يخوض تجربة انتقال ديمقراطي منذ تسع سنوات ولديه تقاليد في النضال الحقوقي والديمقراطي لعقود : قيس سعيّد صاحب الأداء “اللغوي” التمثيلي الملحمي المستدعَى من القواميس الجامدة الفاقدة للروح إلى سياق تاريخي حيّ متجدّد، ممثّلا لـ”الخير المطلق” اللاتاريخي، أي المتوهّم، من جهة، مقابل نبيل القروي ممثّلا لـ”الشرّ المطلق” واللاتاريخي بدوره (أي المتوهّم من قبل خصوم يقدّمون أنفسهم على أنهم الطهارة المطلقة.. أي المستحيلة)، القروي العييّ الذي زجّت به تقاطعات غامضة وظرفية بين المال والسياسة في دور “قيادي” علني مغامر بعد أن كان يفضّل الأدوار الخفية في صناعة الحكّام. مشهد لا علاقة له بالسياسة بما هي فكرة عقلانية كبرى راكمت فيها البشرية منجزات نظرية وعملية هائلة. ولا يخفّف من دراميّة المشهد و/ أو كوميديّته شيئا أن يبرّر بعنف الانتقالات التاريخية بعد الثورات وغرائبيّتها.

فأن يصعد 38 نائبا إلى البرلمان بأصوات “غير سياسية”، أصوات “فقراء” ينتظرون مساعدات وُعِدوا بها، فهو مؤشّر على فقر سياسي حادّ في المشهد “الحزبي” التونسي، فقر سنرى تأثيره واضحا في سلوك هذا التشكيل “اللاسياسي” خلال مفاوضات تشكيل الحكومة الدائرة حاليا، وسيترك أثره لا فقط على المتعاملين معه سرا وعلنا، بل على تبلور مفهوم السياسة في تونس.

3. القوّة الثالثة في البرلمان الجديد بـ 22 نائبا هي حزب “التيار الديمقراطي”. حزب نراه الأقرب إلى السياسة باعتبار نشأته الاحتجاجية من داخل المجال السياسي على ما يقول أنه “فشل” الطبقة السياسية الجديدة في مقاومة الفساد أساسا، لولا أنّ هذه النشأة لاحقتها لعنة “نرجسية” زعيمه الذي طوّع مؤتمر حزبه الأخير ليعود إلى رئاسته سريعا بعد تخلّيه عنها لدورة وحيدة في محاولة غير مكتملة لتكريس مبدأ التداول الديمقراطي على المسؤوليات الحزبية. نرجسية كانت وراء إصرار صاحبها على ترشيح نفسه للرئاسة (ليحصل على نتيجة ضعيفة جدّا لا فقط لا تناسب طموحه، بل ألحقت بصورة الحزب ضررا بالغا) مجهضا محاولات اتفاق القوى المحمولة على الثورة على تقديم مرشّح رئاسي توافقي في مواجهة مرشحي “المنظومة القديمة”. ولولا لوثة الفردنة هذه لكان هذا الحزب الأقرب إلى مفردات السياسة المدنية المطلوبة للتأسيس الديمقراطي الجديد.

4. القوّة الرابعة في البرلمان هي “ائتلاف الكرامة” (بـ 21 نائبا). تشكيلة “سياسية” جديدة نشأت على عجل مطلع 2019 بهدف تأطير “شباب” غاضب على حركة النهضة بسبب توافقها مع المنظومة القديمة منذ 2014. تشكيلة رفعت شعارات راديكالية ثلاثا هي الثورة والهوية والسيادة تطالب بتفعيلها الفوري بعيدا عمّا يرونه حسابات تكتيكية تخصّ حركة النهضة المكبّلة بارتباطات إقليمية ودولية والمحكومة برؤية براغماتية برّرت لها تسويات مرحلة التعايش الاضطراري مع القديم النافذ على امتداد تسع سنوات من الثورة. يهمّنا من هذا التشكيل الجديد راديكالية خطابه المدافع عن “الهوية الدينية” في نسختها النصية المحافظة وتصوّره “التبسيطي” لفكّ الارتباط بالاستعمار الفرنسي إلى درجة تصوير الدعوة الشعبوية إلى طرد السفير الفرنسي ومطالبة فرنسا بالاعتذار عن استعمارها لتونس، مدخلين ضروريّين وربما كافيين لتحقيق السيادة. وهي مقاربة انفعالية تنتمي إلى “الشعار المحض” لا إلى السياسة بما هي تقدير عقلاني للمصلحة وتخطيط عقلاني لتحقيقها.

حول حركة الشعب نكتفي بالقول أنها من بقايا مرحلة طغيان الإيديولوجيا. وهي تنتمي إلى تراث فكري لا يؤمن بالديمقراطية. والأخطر أنها لا تتورّع عن استدعاء تاريخ الصراع الناصري الإخواني المصري في سياق تونسي جديد يحتاج تجذير فكرة الدولة الديمقراطية الحديثة بعد ثورة غير مؤدلجة. لذلك نعتبرها حركة ايديولوجية “ما فوق تونسية” أكثر منها حزبا سياسيا تحتاجه الديمقراطية الناشئة. بقي أنّ تحالفها مع التيار الديمقراطي قد يساعدهما معا على الاقتراب أكثر من دائرة التفكير السياسي البراغماتي.

• أما “الحزب الدستوري الحرّ” فهو فاعل سياسي شديد الخصوصية داخل المشهد البرلماني. هو لا يؤمن بالدستور الحالي ولا بشرعية الثورة التي أسقطت نظام بن علي، ولكنه لا يجد حتى الآن بديلا عن المشاركة في الانتخابات للعمل على إسقاط كامل المسار الذي انطلق منذ 2011. ورغم جذرية هذا الحزب في رفض الثورة بكل منتجاتها، فلست مع من يرى أنه يصلح ليكون “حصان طروادة” لمخطّط إقليمي ودولي يستهدف إسقاط المسار الديمقراطي من داخله، كما فسّر محلّلون كثر اعتصام نواب هذا الحزب لمدة ستة أيام داخل البرلمان مؤخّرا احتجاجا على إهانتهم من قبل نائب من حركة النهضة بنعت لا أخلاقي. ذاك المخطّط موجود فعلا وسيظلّ قائما ولكنه أوسع وأذكى من أن يرتهن إلى حزب يمثّل بسفور فجّ النظام القديم بما يجعله معزولا حتى داخل فضائه “الطبيعي”.

• الفاعل البرلماني الآخر الذي قد يتطوّر حجمه وتكبر “قيمته” السياسية حسب التطوّرات المتوقّعة هو حزب “تحيا تونس”. لو تطوّر الوضع في اتجاه بقاء رئيسه يوسف الشاهد على رأس الحكومة القادمة، وهو أمر وارد ضمن حسابات معينة، فسيكون للحزب، باعتباره الوريث الوحيد لرصيد نداء تونس المندثر هيكليا لكن المستمرّ كجسم انتخابي مشتّت ينتظر “منقذا/ جامعا” ما، سيكون لهذا الحزب دور في صياغة المشهد السياسي القادم. وحتى إن لم يبق رئيسه على رأس الحكومة، واستطاع المحافظة على تماسكه في ظلّ هشاشة الوضع الحالي، فليس مستبعدا بحكم رصيد الحكم والثقة اللذين راكمهما يوسف الشاهد خلال ثلاث سنوات أن يلعب الحزب دورا هاما في المدى القريب.

المحصّلة أن المشهد البرلماني الحالي، خاصّة بالنظر إلى ضبابية “هوية” القوى الكبرى فيه، أنه لا يؤسّس، على الأقلّ في الوقت الراهن، لتبلور فعل سياسي وثيق الصلة بفكرة السياسة كحقل للعقلانية والحداثة، إلا إن أسرفنا في التفاؤل واعتبرنا ما يحدث من مضاعفات غياب عربي طويل عن تاريخ العالم بسبب الاستبداد والجمود الفكري، ويزداد المشهد ضبابا إن نحن التفتنا جهة الرئاسة.

2. رئيس جديد من خارج الديمقراطية الناشئة وربما على أنقاضها:

الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت مفاجئة لكلّ التوقّعات وربما “طريفة” من ناحية “لا نمطيّتها” السياسية. فقد تصدّر دورها الأوّل قيس سعيّد بخُمُس الأصوات، وهو المرشّح ال”نكرة” في المشهد السياسي. قيل الكثير في تفسير صعود رجل بلا تاريخ ولا حزب ولا آلة إعلامية ولا مال، رجل “زاهد” في كلّ هذا وينجح في الفوز على مرشّحين لهم كلّ ذلك أو بعضه. واستدعى البعض تفسيرا يرونه جيواستراتيجيّا ينسبون بمقتضاه قيس سعيّد إلى أجهزة دولية تنشط في الخفاء وتستعمل أساليب التأثير الرقمي في الوسط الشبابي خاصّة، ويرا آخرون ذلك تفسيرا تآمريا لا دليل عليه، ويعزون فوز سعيّد إلى زهديّته الآسرة لشباب فقد ثقته في الطبقة السياسية الناشطة منذ 2011 من دون أن تنجح في فتح أفق المستقبل أمامه.

المفارقة ستزداد طرافة وبعدا عن السياسة، لا فقط عن الديمقراطية الحزبية الجديدة، في الدور الثاني، إذ سارعت كلّ الأحزاب السياسية المنهزمة في الدور الأوّل إلى الاصطفاف الأخلاقوي الغرائزي خلف المرشّح الفاقد لأية هوية سياسية، فقط لمنع منافسه المجسّد ل”الشرّ المطلق” من الوصول إلى الرئاسة. فكان أن صعد قيس سعيّد إلى الرئاسة فيما يشبه البيعة الشعبية والحزبية العامّة، رافعا شعار “الشعب يريد” في توظيف عاطفي ضبابي لشعار الثورة التونسية، ومبشّرا بمراجعة الديمقراطية الحزبية التمثيلية لصالح ديمقراطية مباشرة تنطلق من الأسفل إلى الأعلى.

والآن يرابط الرئيس في قصره مدجّجا بشرعية انتخابية “غير سياسية” تفوق “عدديّا” الأحزاب فردية ومجموعةً، يرصد/ يترصّد تفاعلات مفاوضات تشكيل الحكومة المعقّدة، ومنتظرا “لحظة” ما لتصريف رصيده العالي من الشرعية، مطلقا إشارات متناقضة تراوح بين التعهّد باحترام الدستور الحالي الذي يحاصر وعوده “الفانتازمية” الهلامية، والتذكير من حين لآخر عبر المحسوبين عليه بأنه قريبا سيشرع في قلب الديمقراطية على رأسها، ليعيد الحكم إلى القاعدة الواسعة من الشعب الذي “يعرف ما يريد”، صعودا، بغير الديمقراطية الحزبية، إلى جهاز تشريعي وتنفيذي لم يكشف عن اسمه بعد(!).

3. الحكومة القادمة: حكومة الأمر الواقع قاطرة الجميع إلى السياسة.. أو الفوضى:

في هذا السياق “العجائبي” تقريبا، بين برلمان تغلب عليه قوى تعاني من فقر حادّ في السياسة، أو غير مكتملة “التسيّس”، ورئيس دولة يسبح في خيال “الطوبى” التي لا تعدم نوافذ فاتحة على الفوضى، يجري تفاوض “طريف” بدوره على تشكيل حكومة يخوّل لها الدستور أوسع الصلاحيات التنفيذية. ويمثّل الملمح العامّ للشخصية المكلّفة بتشكيل الحكومة (السيد الحبيب الجملي) مثالا نموذجيا للميوعة السياسية التي تطبع المرحلة. فهو محلّ خلاف في تحديد هويته وانتمائه وقدراته رغم كونه معيّنا من حركة النهضة. ويبدو أنه نجح في “إغراق ” هذا السؤال “التجنيسي” في خضمّ مشاوراته “الطريفة” (مرة أخرى) لتشكيل الحكومة، حيث نوّع وكثّف استشاراته إلى درجة أن ضيّع على المتابعين الخيط الناظم لسلوكه “السياسي”. بعد هذه الخطوة التي يبدو أنها كانت “مماطلة” ضرورية لتليين كلّ من الإيديولوجيا والنرجسيّات، نشهد وصول المفاوضات إلى نقطة “حرجة” تقدّم إليها الجميع قوامها: للبلاد فرصة نادرة للدخول إلى السياسة من باب الإنجاز الفعلي الإقتصادي والإجتماعي الذي لا يتحمّل التأجيل بأية ذريعة كانت. إنجاز سيجرّ الأحزاب مضطربة الهوية بعيدا عن الإيديولوجيا والضبابية في العلاقة بالشعار الديني والأخلاقوي المجرّد، ويقرّبها أكثر من المنافسة على البرامج التفصيلية في معالجة أزمات التشغيل والتعليم والصحة والبنية التحتية. بديل ذلك انغلاق باب السياسة أمام الجميع وانفتاح باب التيه التاريخي أمام الجميع على مصراعيه.

خاتمة:

تسير الفوضى البرلمانية التي طبعت انطلاق أشغال برلمان “فقر السياسة” ( مناورات نفعية خالصة حكمت انتخاب رئيسه ونائب رئيسه ثمّ اعتصام الأيام الستة الذي عطّل وقتيا عمل البرلمان وظنّ الكثيرون أنه سيتطوّر نحو مراحل أخطر) تدريجيا نحو استقرار “اضطراري” يحرّكه هاجس يحكم الجميع هو تجنّب الدفع نحو إعادة الانتخابات. هذا الهاجس سيكون محدّدا في تليين مواقف المطلوب مشاركتهم في الحكومة الحالية، وحتى الذين لن يشاركوا قد لا يبخلون على الحكومة القادمة بأصواتهم “الخائفة” من سقوطها. والأرجح أن الجميع سيتجنّب سيناريو حكومة الرئيس الذي، إن آل إليه أمر الحكومة، فقد يستعمل هذه الشرعية الإضافية في قلب الطاولة على الجميع.

في الانتظار، يظلّ مخاض التأسيس الديمقراطي في تونس واعدا بالشئ.. ونقيضه، بنفس الدرجة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock