مقالات

حكومة الثورة: حد الحقيقة وحدود الوهم

نور الدين الختروشي

ينتظر التونسيون بفارغ صبر تشكيل حكومة الوزير الأول المفوض فبعد ماراطون المفاوضات التي شملت “كل من هب ودب” وتجاوزت المهلة الأولى على مائدة الشاي في قصر الضيافة ليطلب التمديد عله ينقذ ما يمكن انقاذه بعد رفض جل المعنيين المشاركة في الحكومة بدعاوي شتى واسباب عديدة ومتعددة.

يوشك السيد لحبيب الجملي على الإعلان عن حكومته وينتظر الجميع التوليفة الجديدة للحكم بعد مناكفات وتجاذبات وفشل معلن في إقناع المعنيين بالمشاركة. حتى وصل الأمر الى تدخل مشكور من الحبيب بوعجيلة وجوهر بن مبارك لتقريب وجهات النظر بين الجملي وما يسمى بأحزاب الثورة. وكل المعطيات في الساعات الاخيرة ترجح فشل المبادرة رغم ما واكبها من تفاؤل واستبشار بحل عقدة المشاركة في الحكم.

الراجح أن السيد الجملي سيضطر للتعاطي مع الضفة الأخرى الغير محسوبة على الثورة والمغموزة بالفساد اَو بالولاء للمنظومة القديمة.

كنت ومازلت على قناعتي بأن ثنائية الثورة والثورة المضادة انتهت مع العهدة التأسيسية وأن من يستدعي عنوان الثورة في مقابل الازلام يعبر بالنهاية عن خلل منهجي في مقاربة تطور الحالة التونسية أو عن كسل ذهني في فهم الموجود والسائد الوطني.

ما أدهش المراقبين خلال حملة الانتخابات التشريعية هو ردة حركة النهضة -خطابا لا ممارسة- عن العنوان الإصلاحي والواقعي في التعاطي مع الموجود السياسي، وشطبها بسهولة وخفة وصفاقة لرافعة التوافق كفلسفة في إدارة الصراع مع المنظومة القديمة التي أعادت إنتاج نفسها في حاوية النداء بزعامة الباجي قايد السبسي سنة 2014.

زعيم حركة النهضة نسي أو تناسى تحت ضغط السياق الانتخابي انه مهندس سياسة التوافق التي يكاد يجمع المراقبون والمعنيون بالحالة التونسية أنها أنقذت تونس من مآلات بقية الثورات العربية التي انحرفت عن مسارها وشرعت للفوضى والمباراة بالدم.

الغنوشي وهو يعلن من صفاقس أن النهضة لن تحكم مع حزب المقرونة أعلن عن تراجع استراتيجي فارق في التعاطي مع المرحلة، ويمم وجهه نحو فرازيولوجيا ثورجية مراهقة بدعوى الاستجابة للسياق الثوري الذي استجلبه انتصار قيس سعيد الكاسح في الرئاسيات.

خطاب النهضة الثوري في التشريعية والذي كان مبرره الخشية من خسارة قاعدتها الانتخابية في مناخ شعبوي متخمر على معزوفة الخطاب الثورجي، هذا الخطاب تراجع بحجم النهضة إلى الثلث مقارنة بالعهدة الانتخابية السابقة فجاءت في المرتبة الاولى بأغلبية ضعيفة تليق بحزب وسطي تعديلي ولا تؤشر على فوز حقيقي للحزب الأول في البلاد.

تكفلت النهضة كما ينص الدستور بصداع تشكيل الحكومة، واستدرارا لعطف المشائين بوهم انتصار الاحزاب الثورية، وموت المنظومة القديمة. قبلت النهضة بابتزاز شركائها وكلفت شخصية مجهولة من دَون ماض سياسي ولا خبرة تذكر في إدارة الشأن العام.

تابع الرأي العام أدق دقائق المفاوضات على المنصات الإعلامية في سابقة غير محمودة تدل على عدم جدية المعنيين بالتفاوض ومراهقتهم السياسية، بأكثر مما تؤشر على الشفافية ووَضع الجميع امام مسؤوليتهم الأخلاقية والسياسية ودورهم في تعميق الانتظارية الحائرة المخيمة اليوم على المشهد الوطني.

فشلت مختلف فرق التفاوض البارز منها والخفي في زحزحة مواقف حزب التيار وحزب الشعب الموسمين وهما أو بهتانا بأنهم أحزابا ثورية. وحقيقة لا يعلم كاتب هذه السطور المقاييس المعتمدة في تصنيفها هذا، فلا حزب التيار ولا حزب الشعب شاركوا في إشعال فتيل الثَوة، بل إن رمز التيار السيد محمد عبو لم يقتنع بالثورة الى يوم هروب المخلوع، أما حزب الشعب فان مواقفه من نظام الشبيحة وانحيازه للمحور الإماراتي في ليبيا يكفي ليؤشر عن ثوريته الصفراء.

وهم الثورجية والشعبوية الذي أطلقه انتخاب قيس سعيد انحرف بالنهضة عن خطها الاستراتيجي في التعامل مع المرحلة البينية المتموجة من دون تغيير يذكر في موازين القوى الحقيقي المتصل بموقع وحجم تونس القديمة في التحكم في معادلة التوازن بين مطمح الثورة في شطب القديم وإكراهات الواقع بدالة المعادلة الدولية والاقليمية وبحقيقة الدولة الصلبة المتحكمة في السوق والادارة والاعلام والمجتمع المدني.

ربما الانجاز السياسي الوحيد الذي حققه المسار التفاوضي حول الحكومة هو تعرية وفضح ثورجية محمد عبو وزهير المغزاوي وانتهازيتهم المقرفة التي وقف عليها الرأي العام. فقد تناسى قادة الحزبين أنهما وصلا للبرلمان بنظام البقايا سيء الذكر، وأنهم في الحقيقة بقاعدة انتخابية ضعيفة وهلامية، حتى أن وجودهم في المشهد مرتبط ومشروط ببقاء القانون الانتخابي الفضائحي الذي صمم ليمنع مبدأ الحكم ذاته.

ستتشكل حكومة الجملي بالعودة إلى مبدأ التوافق مع القديم كرها. ولكن في تقديري أن هذا التوافق الخفي منه مع حزب القروي، والبارز مع كتلة الاصلاح، هو عودة إلى العقل والتعقل ومبدأ الترفق بالمركب وراكبيه والذي يوشك أن يغرق بالجميع اذا لم ينتبه ربانه إلى أن الحكمة في مراكمة الممكن لإنجاز الطموح.

ولقد اضاع الجملي وفريقه التفاوضي اكثر من شهر في السعي وراء وهم حكومة الثورة أو الحكومة الثورية وكان يجب ان يفشل كي يفهم الصادقون في حلمهم بحكومة الثورة أن المحسوبين على القوى الثورية لم يثبتوا سوى قدرتهم على المزايدة البائسة والمفضوحة بالشعارات الحالمة وبراعتهم في تزييف الوعي بالأولويات الوطنية، وفي مقدمتها انقاذ البلاد من إفلاس الخزينة وانهيار اقتصادها بعد عبث النخب الجديدة ومن مختلف مواقعها الحاكمة منها والمعارضة بالمصير العام.

الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock