مقالات

الرئيس والمنظّر والمعركة الخاسرة

نور الدين الختروشي

كثيرون ومنهم كاتب هذه السطور لم يستوعبوا غرابة وشذوذ مسلك الرئيس الذي لم يفوت فرصة ليؤكد تجاهله حد الازدراء لأبسط نواميس الدولة وبروتوكولها الرسمي.
فمن رفضه الاقامة بالقصر الرئاسي إلى استقباله اليومي لأفواج من الشبيبة المحبطة من السائد والحالمة بتغيير أوضاعها برهانها على “ابن الشعب” الى غيابه وسلبيته المقصوده عن يوميات الاستحقاق النيابي والحكومي رغم ما يواكبها من تعثرات كان يمكن لسعيد ان يساهم في تسهيل حلها على الأقل بحكم قيمته الاعتبارية وثقل شرعيته الانتخابية.

َكل هذا وغيره بدا غامضا للرأي العام وبدون تفسير، إلا بأمرين فأما الرئيس غير مؤهل سياسيا لتولي المنصب الاعلى في الدولة او انه وهذا المقلق حد الفزع غير مؤمن بالدولة ونواميسها.
الرئيس الغائب تماما عن المشهد يواصل غي الحقيقة نفس الاستراتيجية التي اعتمدها للوصول لقرطاج أي الفاعلية بالغياب. فقد كان سعيد وفي قلب الحملة الانتخابية غائبا بالصمت، وفي المناسبات القليلة التي ظهر فيها لم يقل شيئا سوى جملا فضفاضة كان جوهرها ومدار معناها تفسيخ معاني اجتماعنا السياسي الوطني وتدمير ما يسميه أنصاره “بالسيستام” والذي لا يعني بالنهاية سوى الثورة على منجز الثورة السياسي والدستوري.

بعد ظهور وتكلم السيد رضا المكي الذي ينسب له انه العقل المفكر والمنتج لمشروع الرئيس، توضح نسبيا الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مشروع “الشعب يريد” و”مجتمع القانون”.
فالرئيس ومن خلال إشاراته القليلة في حملته الانتخابية ومن خلال التفصيل الممل الذي شرح فيه رضا المكي مشروع الديمقراطية المجالسية يعمل في الحقيقة على نسف معمودية النظام السياسي الذي أفرزه دستور الثورة.

الخلاصة السابقة تفسر لامبالاة الرئيس بنواميس موقعه السيادي بل وسعيه إلى ترذيل كل الطقوس الرسمية ذات الصلة بعنوان هيبة الدولة.
لم يكن مخطأ من انتبه وقال ان سلبية الرئيس وعدم مبالاته بما حصل مع مسلسل عبير موسى في الأسبوع الفارط كان مقصودا لأن من مصلحة مشروع اللادولة الذي يبشر به الرئيس وأتباعه أن تتعفن جروح ديمقراطيتنا الفتية ليسهل تمرير استراتيجية الاطاحة بها ونسفها من جذورها لصالح مشروع ما يسمى بالديمقراطية المباشرة.
المهم والاهم والاخطر في كل السابق هو محنة الدولة في مرحلة بينية لزجة وعائمة وسائلة، فبقايا الدولة التي تركتها الثورة مثخنة بجرح اختزالها في أنظمة الاستبداد التي امسكت بها بعد الاستقلال، لم يتردد قيس سعيد في ترذيلها والدوس على أغلب نواميسها بأداء رئاسوي شعبوي جوهره الإهانة الممنهجة لبقايا الدولة.
حالة الصفر الدولة التي يسعى لإنجازها مشروع الرئيس لبست جديدة ومحنة قوى التغيير التي قاومت الاستبداد منذ الاستقلال تحيل على هلامية حضور الدولة في وعي النخب الجديدة التي أفرزتها الثورة.

لقد مارس وعينا الترنسندتالي الميتافيزيقي بالدولة ووظيفتها الأخلاقية سلطة مخاتلة في إنتاج خطابنا حول أولويات المرحلة، وكان مدارها تركيز أسس الحرية وتناسي سؤال الدولة هذا في حين نبه الناخب مبكرا الى الحاجة للأمن والاستقرار والنظام، في أول انتخابات تشريعية حيث صعد للحكم للأطراف الممثلة للظل الكثيف للدولة الحامية،.
لم ننتبه يومها لجوهر رسالة الناخب، ولم نر من تصعيد نداء تونس سوى معنى عودة الثورة المضادة للحكم باليات النظام الديمقراطي… لم ننتبه إلى أن الرسالة تحيل أساسا وخاصة على وعي شعبي وافقي وتاريخي بموضوع الدولة تجاوز في مداه النخب المتوجسة من تغول “الايفياتون”، فالرسالة يومها لم تكن سياسية بقدر ما كانت تاريخية، تفصح على مخاوف التونسيين من ممكن تفسيخ معنى الاجتماع السياسي والوجود الاجتماعي في حال غياب الدولة، او تدميرها بأكثر ما يحيل على حنين للاستبداد او قبولا بعودة نصاب القمع.

أظن أننا معنيون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نجدد أسس علاقتنا يموضوعة الدولة نفسها.. معنيون بالاشتغال على معنى الحفاظ على منجز الدولة وقوة الدولة وهيبة الدولة ضمن رؤية وطنية شاملة تحيل على ان قوة الدولة في صلابة نسيجها التعاقدي وقاعدتها الدستورية والتزامها القانون والولاء العام الطوعي لها مع التذكير أن ضعف الدولة من مظاهر أنصبة القمع والاستبداد وقوتها من مظاهر الديمقراطيات الراسخة.
الوعي بالحاجة للدولة بقدر ما يبدو راسخا في وعي الناس يبدو غائما ومستشكلا لدى الجزء الغالب من نخبنا، بل ويبدو ذلك الوعي مقلوبا وزائفا في مشروع الرئيس المستنكر لتلك الحاجة للدولة.

لقد تبين أن النخب السياسية الثورية والأيديولوجية هي أكثر من تصادم مع الدولة، وأهدر سبعين عاماً كاملة من عمر الأمة وهذه النخب صنعت ودعمت أسوأ أنواع الأنظمة السياسية
وبعد أفول الأصنام الأيديولوجية بعد الثورات عدنا إلي النموذج الأول الذي بشرت به الإصلاحية العربية والإسلامية في عصر النهضة.. الدولة الدستورية الليبرالية والشرعية الديمقراطية.
لعل من مفارقات المرحلة فى تونس اليوم أن الحداثيين أصبحوا أكثر من يهدد الدولة ويشكك في مؤسساتها مع أنهم الأكثر استفادة من الدولة ومواقعها وامتيازاتها.
وصار الإسلاميون أكثر من يدافع عن الدولة ومؤسساتها مع أنهم الأقل تموقعا فيها وهم أكبر ضحاياها التاريخيين..

وإذا كان مشروع الرئيس هو بالنهاية يوطوبيا مجتمع اللادولة سيجد الاسلاميون انفسهم في الاشهر القادمة الى جانب اكثر القوى حماسا لفكرة النظام قبل الحرية، وفي قلب مواجهة مفتوحة مع ساكن قرطاج، والذي لن يفوت أية فرصة لتهديد وانهاك “السيستام” انجازا لموعوده الانتخابي. ومداره تدمير النسق والنظام والجهاز، من أجل مشروع نصفه ظاهر، ونصفه خفي والظاهر منه عنوانه: مجتمع اللادولة.

الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock