مقالات

صندوق الزكاة ماذا يخفي فشل إقراره ؟

أبو يعرب المرزوقي

فشل المشروع المتعلق بإقرار صندوق الزكاة.
وحملت المسؤولية لرؤية الإسلاميين.
فظن الكثير أني أتنصل من انتسابي للإسلام عامة للخلط بينه وبين التحزب الإسلامي.
لكن المشكل أعمق مما يتصور الكثير.
وعلة تحميلهم المسؤولية ليست سياسية فحسب.
إنها تتعلق بما اعتبره تحريفا عميقا وخطيرا للإسلام.

وهو تحريف أعتبره علة فشل كل السياسات التي يخلط أصحابها بين:

  • ما يحدده الإسلام قرآنا وسنة من دور لقيمه مرجعية متعالية على الدنيا قابلة لأن تكون مرجعية لسياستها الدنيوية.
  • وما يزعم أصحابها تحقيقه مطابقة مع هذه القيم المتعالية التي هي مثال أعلى للمؤمنين بما يتعالى على الدنيا.

وأكبر علامة على هذا التحريف هو عدم فهم دلالة “الإسلام هو الحل”.
فالساخرون منه شعارا ليسوا أقل تحريفا لدلالته من رافعيه شعارا يدافعون عنه.
ولا أحد منهما تجاوز “ويل للمصلين” فأكمل بقية المبدأ أو الشعار: هو حل ماذا؟
تلك هي علة تدخلي أمس وتحميلي المسؤولية للإسلاميين على فشل المشروع.
إذ لا يمكن أن أحمل المسؤولية لمن لا يؤمن به حلا مثل المسلم.

وإذا كان الذي لا يؤمن به حلا يرى الحل في الماركسية أو في الليبرالية مثلا وكان الإسلامي يعيب عليهما ذلك فلا يمكنه أن يلومهما إذ يعيبا عليه خياره.
فثلاثتهم يتكلمون باسم مرجعية يطلقونها ويريدون فرضها على غيرهم.
وهذا ما أسميه تحريفا للدين عامة وللإسلام خاصة كما سأبين.

وله علة تاريخية معلومة.
فما حل بالمسلمين من انحطاط نتج:

  • داخليا عن تمديد حالة طوارئ كانت ضرورية خلال الحروب الأهلية التي تلت الفتنة الكبرى أربعة عشر قرنا.
  • وخارجيا عما مر به تاريخنا من صراعات مع همجيتين هما مغول الشرق ثم الحروب الصليبية ثم حروب الاسترداد ثم حروب الاستعمار التي ما تزال جارية.

وما أسميه تحريفا للسنن السياسية الحديثة أو العلمانية هو:

  • التحريف الماركسي في البلاد المسيحية التي قامت بالإصلاح في القرن السادس عشر.
  • وهو كذلك ما أحدثته الثورة الفرنسية والعقيدة اليعقوبية من علمنة سطحية حافظت على الرؤية الكاثوليكية المتخلفة.

فأصبحت الدولة كنيسة علمانية تتدخل في خصوصيات الإنسان تربية وحكما.
وحاكتها الماركسية التي ليس الحزب الشيوعي فيها إلا كنيسة معلمنة.
فعلمانيتها مثل علمانية اليعقوبية تمثلان تحريف مفهوم العلمانية.

وما يجري اليوم في كل بلاد العرب هو صراع بين هذين التحريفين.
وحتى أوضح ذلك فلا بد من الجواب عن سؤال:
“الإسلام هو الحل” لأي مشكل؟
وقس عليه كل مرجعية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية وصلا أو فصلا عن الدين.
والدولة عندما تعتبر حلا فينبغي أن نسأل هي حل لأي مشكل؟

وما يعنيني في ذلك كله هو عين بيان القصد بقابلية الإسلام أن يكون مرجعية لسياسة الدنيا بما يتعالى عليها.
وهو ما يعني الجواب عن سؤال أعمق هو:
كيف وفق الإسلام بين سياسة الدنيا ومثالها الأعلى؟
أي سياسة الله للعالم كله بمنطق سيادة القيم التي تجعل القانون شرعيا حتى على الله نفسه.
إذ إن الله في القرآن لا يشرع لمخلوقاته فحسب.
بل هو يعتبر نفسه هو بدوره خاضعا لنفس التشريع.
فهو يقول إنه كتب على نفسه مثلما ما كتبه على غيره أي العدل والرحمة في التعامل.

وسأستمد حججي من مصدرين:

  1. القرآن والسنة متحررين من التحريف الناتج عن الانحطاط.
  2. السنن السياسية متحررة من التحريف الناتج عن اليعقوبية والماركسية.

وسأنطلق من مبدأ بسيط أطبقه على تونس.
فعندنا:

  1. من يزعم الاعتماد على الإسلام مرجعية.
  2. ومن يزعم الاعتماد على الليبرالية مرجعية.
  3. ومن يعتمد على الماركسية مرجعية.
  4. ومن يعتمد على اليعقوبية مرجعية.
  5. ومن يلعب عليها جميعا بحسب السوانح.

فلنعتبر أن ذلك هو ما يختلفون فيه.
فهل يوجد ما يتحدون فيه أو يجمعون عليه؟
أليس ما يعتبرون هذه المرجعيات مصدرا للعناوين التي تسميه وهو من المفروض ما يؤسس لكونهم يشتركون:

  1. في الإنسانية رغم التعدد؟
  2. وفي الوطن رغم التعدد؟
  3. وفي المصير الواحد رغم التعدد؟
  4. وفي ما لا بد منه للعيش المشترك رغم التعدد؟
  5. وفي وظائف الدولة أي تحقيق المشتركات الأربعة السابقة سلميا؟

ما أظن أحدا ينفي أن المقابلة بين الإسلامي والملحد لا تنفي اشتراكهما:

  • في الإنسانية
  • أو في الوطن الواحد
  • أو في المصير الواحد
  • أو في ضرورة التعايش
  • أو أخيرا في الاعتماد على دولة تحقق هذه الشروط حتى لا ينفي أحد إنسانية أحد أو مشاركته في الوطن أو مشاركته في المصير أو في ضرورة التسالم للعيش المشترك.

فيكون السؤال كيف يمكن:

  • تحييد علل الفروق
  • وجعلها من خصوصيات كل مرجعية
  • والتخلي عن فرضها على البقية؟

وسيتحقق المطلوب.
وليكن مثالي الزكاة.

فلو تساءلنا عن وظيفتها في الإسلام بصرف النظر عن اسمها لوجدنا أنها تعني مساعدة من ليس له الحد الأدنى للحياة الكريمة حتى يتمكن من وجود حل لما يحول دونه وتحقيقها بنفسه.

فهذا المعنى لا يمكن أن يختلف عليه إثنان أيا كانت المرجعية التي يؤمن بها.
وليس لأنه يتنازل عن مرجعيته بل لأنه يعتبر ذلك تحقيقا لشرط السلمية في الجماعة.
ذلك أن أي مجتمع لا يحل هذا المشكل لا يمكن أن يتوفر فيه الشرط الأدنى للحياة السلمية.
فمن يحرم من شروط الكرامة لا يلومه أحد إذا صار مجرما.

ولما كان لا يعنيني في القضية إلا شعار “الإسلام هو الحل”
فإني أجيب عن السؤال حل لأي مشكل؟
والجواب لست أنا الذي سأقدمه بل القرآن والسنة قبل أن أتكلم على ما يقتضيه العقل إذا تخلصنا من كذبة الماركسية واليعقوبية اللتين تعتبران حلهما عقليا وتنويريا.

1. القرآن يحدد في المائدة 48 ضرورة التعدد الديني والشرائع.
ويعتبره شرط التسابق في الخيرات وليس حائلا دونها.
وهو لذلك يعتبر أن المشتركين في الجماعة والمختلفين بالمرجعيات ينبغي أن يعترف كل واحد منهم بحق الآخر في العيش بحسب مرجعيته.
في المائدة احتكم اليهود للرسول الخاتم في خلاف بينهم.
فخيرهم بين تطبيق شريعتهم أو تطبيق شريعة الإسلام.
ولم يفرض عليهم شريعة الإسلام بل اعتبر استعمالهم لشريعتهم أفضل لهم.

2. السنة أفضل تجسيد لها دستور الرسول.
فهو حصر مهمة الحكم في ما لا يمس بالخصوصيات المرجعية القيمية لمن انضوى تحت دولته.
فترك لليهودي وللمسلم وللجاهلي حرية العيش بمرجعياتهم.
واعتبر دور الدولة مقصورا على:

  • الحماية الداخلية (القضاء كل بحسب شريعته والأمن المشترك)
  • والحماية الخارجية (الدبلوماسية والدفاع)
    الذي هو من مهام الدولة.
    أما ما عدا ذلك فلكل جماعة حقها المطلق في أن تعيش بحسب مرجعيتها لباسا وأكلا وعلاقات أسرية إلخ..

وهذه الحلول التي وضعها الإسلام لا تسمي الأشياء بالمرجعيات إلا بين أصحابها.
لكنها في ما يتعلق بالمشترك فتسمى بالوظيفة الواحدة:

  • الامن الداخلي
  • والأمن الخارجي
  • وشروط الإنتاج الذي يسد الحاجات المادية (الاقتصاد)
  • وشروط الإنتاج الذي يسد الحاجات الروحية (الثقافة معرفة وقيما).
    وتلك هي الوظائف المشتركة.
    ومنها ما يسميه المسلم الزكاة وما يمكن تسميته بوظيفته توفير الحد الأدنى للعيش الكريم لمن ليس لهم مورد
  • إما بصورة دائمة (مثل أصحاب الإعاقة).
  • أو بصورة ظرفية (مثل المساكين واليتامى والمدانين وأبناء السبيل).

ولو عرض الأمر بهذا الشكل لحصل المشروع على التأييد مائة في المائة.
ذلك هو ما عبته على الإسلاميين وحملتهم مسؤوليته لأنهم فضلوا المحافظة على إسم يخصهم وحدهم بدلا من الحصول على الوظيفة التي لا يختلف فيها إثنان.
وكان يمكن أن يحققوا بذلك نفس الفائدة السياسية لولا الحمق الذي يريد النتيجة العاجلة بدل النتيجة الآجلة.
ذلك أنهم لو اختاروا الطريق الثانية فإن الفائدة السياسية من المشروع تبقى لهم لأنها تكون قد تحققت في فترة حكمهم ولا يهم بأي اسم تحققت.

والحكمة من ذلك كله هي أن السياسة التي تخدم أهداف الإسلام أكبر فائدة من السياسة التي تستخدم شعاراته.
فهي تبين أن ما يتعالى على السياسة غاية وليس أداة.
ولما تتحقق الغاية تثبت لعديمي الحيلة أن الحيلة في ترك الحيلة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock