تدوينات تونسية

عن الهريسة في «بانو بلاستيك» أحدثكم

توفيق رمضان

مجموعة من التلاميذ في مدرسة إبتدائية يصطفون لأخذ لمجتهم التي هي قطعة من الخبز بالهريسة التي تم خلطها في وعاء بلاستيكي، صورة كان يمكن أن لا تصل إلينا لولا زوكيربورغ رضي الله عنه، نعم في 2019 وفي بلد 3000 سنة حضارة (كم أكره هذه العبارة) وبعد 60 سنة استقلال والمراهنة على التعليم والانخراط في الحداثة وكل تلك الكليشيهات واليافطات التي مللنا رفعها يقف اطفال في مدرسة من مدارس معتمدية العيون من ولاية القصرين هم أحفاد علي بن غذاهم وحفيداته صفا واحدا لا للدخول للمكتبة او قاعة الاعلامية للعب بحواسيبهم او تبلاتاتهم (تبلات لكل تلميذ اكيد تذكرون تلك الكذبة الكبرى) يا حكام البلاد، بل لتناول قطعة خبز مغمسة ببعض هريسة حارة معلبة في أحد المعامل التي لم تحترم طبعا قواعد الصحة ولا سدد اصحابها ديونهم للقباضة المالية ولا يتمتع عمالها بالتغطية الاجتماعية ولا الترسيم.

صورة تجعلك تسأل اي جيل نكوّن لمستقبل هذا البلد، صورة عشناها في السبعينات والثمانينات ولازلنا نحتفظ بها في الذاكرة، لازال مذاق الخبز والهريسة والسردينة على أطراف ألسنتنا لكن الزمن غير الزمن هداكم الله. مدارس تكتظ بالتلاميذ في قسم واحد، الطاولات وكانها من بقايا قصف الاحتلال، سبورات كلت وملّتها الطباشير فرفضت مصافحتها، أسقف تقطر وحيطان مشققة كشقوق احزابكم، تلاميذ يقطعون كيلومترات على الأقدام تقوست ظهورهم من ثقل ما يحملون من كراسات وكتب، فمنهم من يصل ومنهم من يأكله الطريق (حيوانات سائبة، أودية …) وما بدلوا إيمانهم بالتعليم وقدرته على بناء شخصياتهم وتشكيل وعيهم فهم يدرسون لأن الآباء علموهم أن طلب العلم فريضة شرعية بها يتقربون الى الله، لان الامهات تقلن أن التعليم هو سبيلهم لتحقيق امنياتهم الصغيرة منها والكبيرة، يدرس الولد ليصير يوما موظفا كبيرا او حتى صغيرا، المهم أن يتخلص من الجري وراء الشياه والماعز ولا تتشقق رجلاه ويداه مثل والده، أن لا ينحني ظهر البنت من الطابونة والحلب وجلب الماء من العين في الڨلة، أحلام بكل الالوان يرسمها التلاميذ لتعينهم على نسيان تعب الطريق بين المدرسة والبيت تحت الشمس الحارة صيفا وتهاطل الثلوج في الشتاء.

حدثتنا الحكومات المتتالية عن ثورة في المنظومة التربوية من المدرسة الرقمية، التبلات لكل تلميذ، السبورة الذكية، الزمن المدرسي، تحسين وضعية المدرس، النوادي التنشيطية… لكن للأسف تبقى مجرد احلام واماني ممكنة لو توفرت الارادة، كيف نتحدث عن التبلات والمدرسة الرقمية في نفس الوقت مع الهريسة في «بانو البلاستيك» سيصيبنا ذلك «بالجاير».

ان عجزت الدولة عن توفير لمجة لتلميذ في إحدى المدارس المنسية فأي مبرر لوجودها، كيف ستقنعه بأن هذه البلد غير ظالم لابنائه، كيف تنتظر منه أن يغني أحب مدرستي، كيف تنتظر منه أن يموت ليحيا الوطن، أكثر ما يمكن أن يقدمه للبلد غدا هو أن يهجرها هجرا جميلا ويركب قوارب الموت عله يصل الى الضفة الاخرى فيخر ساجدا لله شاكرا له على أن بلغه بلاد الفرنجة ودار الكفر سالما ليعود منها بعد ذلك غانما، ليهدي والديه حجة أو عمرة ليدعوان له وعلى هذه الدولة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock