مقالات

عن رائحة الياسمين في حوش أمي

كمال الشارني

لمن يسأل عن موضع الزعيم بورقيبة في التاريخ الوطني، لقد كتبت هذا النص من غرفة العزل في سجن القصرين المدني في آخر أيام بورقيبة، وأنا تلميذ محكوم بخمس سنوات ونصف سجنا من أجل احتجاجات تلمذية:

عن الأم، عن رائحة الياسمين في حوش أمي (من رواية أحباب الله)
في الأصل، وقبل محنة العزل الانفرادي، في أيام السجن العادية حيث لا يتغيّر شيء منذ اليوم الأوّل غير قدرتي على اختراع حيل مبتكرة لمقاومة الجنون، تختار روحي السجينة مساءات السجن عندما تخيّم على عالمنا المغلق حالات الوجد الذي يدفع أشدّ القلوب قدرة على الصبر إلى البكاء، عندما تغلق أبواب غرف السجن وترحل روحي المعذّبة بالشوق نحو رائحة الياسمين في حوش أمي، آه يا مساءات السجن !

تحلّق روحي وحيدة بلا جسدي عاليا مثل طير مهاجر أضاع سرب هجرته، تطوف روحي عند الغسق في سماء بيت أمي كي أشمّ رائحة خبزها المسائي المصبوغة بأحزانها. من فرط الشوق أرى شبحي يمشي هانئا في غرف البيت وفي الحديقة، كل شيء هنا تراه روحي كما تركته آخر مرّة رأيت فيها بيت أمي: ملابسها الأخيرة قبل صلاة المغرب، قطع من ملابس العروس القادمة تعدّها بإتقان أمّ تزفّ ابنتها الوحيدة. كم يؤسفني أن آخر ما تحتفظ به روحي السجينة من رحلة الشوق هي حقيقة مشاعر آخر مرّة لي في البيت، في عرس وأنا حزين لبعدي عن مدينة الكاف وعن أهلي. أجول في بيتنا وحيدا بعد أن ذهب الجميع إلى حيث العرس. داهمني حزن غامض يدفع إلى الاستسلام للموت فيما كان صخب موسيقى العرس يوقظ موتى الأسرة. أتأمّل أثاث البيت البالي وأتشمّم رائحة أمي في ملابسها المعلّقة على باب غرفتها. رائحة إخوتي في الأغطية حتى الغائبين منهم. رائحة مطبخنا وخصوصا رائحة الخبز التقليدي وخميرته التي لا تغيب عنا في رقعة الجلد القديم. هل كانت روحي تودّع بيتنا قبل محنة السجن؟

روحي تجد بيتنا كما تركته، برائحة أمي تقوم من نومها مبكّرا قبل أن يفيق أيّ شيء في هذا الكون تعدّ لنا إفطارنا، وأراها وهي تتحرّك بحركات وئيدة بغطاء رأسها الأزلي وأحزان وجهها الطويلة وخصلة شعر رمادية تطلّ تحت الغطاء بسبب غياب كلّ أبنائها دون أيّ وعد بالعودة، أبكي في خيالي لأنّ أمي لا تحسّ وجود روحي، أتفقّد إخوتي في مضاجعهم كما أتذكّرهم في صغرنا واحدا واحدا وأغطّي الصغرى بقلبي لأنّ أمي كانت تقول عنها إنها كانت تنفض الغطاء عن نفسها في نومها.
– آه يا صغرى إخوتي،
تركتها وهي لم تبلغ من العمر بعد عاما ونصف العام عندما دخلت السجن حتى أني عندما أُفرِجَ عنّي لم أعرفها ولم تعرفني وهي تقف في باب الحوش عندما علمت بخبر الإفراج عنّي من السجن، تحاول أن تستطلع وجهي بين وجوه الغرباء الذين يمرّون أمام باب الدار إلى إدارة الغابات حيث يبحثون عن شغل في الحضائر الموسمية بعد أن شرّدتهم الدولة من أراضيهم التي لم يفكّروا في تسجيلها لدى إدارة “الدفتر خانة”.

في غرفة العزل في سجن القصرين، تهيم بي الذكريات بعيدا وعاليا، في مروج دير الكاف وتهيم روحي وحيدة معزولة عن أحاسيس الذين أحبّهم. قبل أن تعود روحي إلى جسدي في السجن أسقي الورود ونباتات أمي في المحابس وفي مساحات التراب الصغيرة التي بقيت في اسمنت الحوش حتى تتوهّم أمي أنها هي التي سقتها وهي ساهية مثل عادتها دائما، أجمع الأشياء التي نسيَتها قبل نومها خارج البيت وأحكم غلق المنافذ جيّدا والثقوب بين النوافذ والأبواب التي يعود عصرها إلى الاحتلال الفرنسي حتى لا يقتحم برد جبال ملاق ورطوبة بحيرته التي تنشئ مرض البرد العضال في عظام الركبتين وعضلات الظهر الغرف بعد منتصف الليل. أتفقّد ملاعب طفولتي ومراهقتي بحزن لا حدود له يدفع إلى قتل النفس أسى، تكتب روحي بخطّ غير مرئي على جدران بيت أمي، الذي لن يعود بيتي أبدا، رسائل سرّية لا تقرأ إلاّ بالشوق المبرح لكي لا تنتظرني عند المساء ولا عند الفجر ولا في أيّ وقت آخر، منذ تعوّدت أن تراني قادما في المساء أو في الليل بلا موعد أحمل أدباشي القليلة والتعيسة التي خاطت أغلبها بيديها مطرودا من المعاهد بسبب التشويش، لكي لا تعدّ عشائي، فقد “أعود وقد لا أعود” يا أمي، إذ كم يبدو لي ذلك العالم بعيدا وأنا في هذا الجحيم السفلي الذي ابتلعني.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock