مقالات

تعليقٌ مُرٌّ، مرارة نهب الرأسمالية المعولَمة للمال العام

محمد كشكار

مواطن العالَم، متعدّد الهُويات، l’homme semi-perméable

تعليقٌ حول اقتراح الرئيس الجديد بالتبرّع الشعبي لخلاص القروض الخارجية الكريهة (Les dettes odieuses).

ملاحظة منهجية:
اقتراحٌ شعبيٌّ، نقلَه قيس سعيد، أو يتبنّاه قيس سعيد، تدقيقٌ شكلي لن يغيرَ في مضمونِ تحليلي شيئًا يُذكَرُ.

مقدمة تجنبًا للمزايدة الفارغة:
لو.. لو كان التبرّع سينقذنا من التداين الخارجي والتبعية الاقتصادية المزمنة للدول المُقرِضة لَتبرّعتُ مدى الحياة بثلث مرتبي كأستاذ ثانوي متقاعد (500/1500). لم يبق في العمر إلا القليل! لماذا الثلث بالضبط؟ لأنه يساوي المبلغ الذي أدّخرُه شهريًّا للطوارئ (دفتر ادخار مدرسي لابني الصغير، أمراض فجائية تكثر في الشيخوخة، تبييض الدار، عرس ابني الكبير، إلخ.). لو…

لُبُّ الموضوع:
المستفيد الوحيد في تونس من القروض الخارجية القذرة (Les dettes odieuses)، هم رجال الأعمال وخاصة المعفيين من دفع الضرائب أو تخفيضها مثل أصحاب النزُل (خاصة عند الأزمات وما أكثرها)، شركات التصدير، الشركات الاستثمارية الأجنبية (قانون أفريل 1972)، المصحات الخاصة، الكوادر العليا العمومية المرتشية من تسهيل الصفقات، إلخ. (تمنيت على الأقل لو استُثمِرت القروض في بعث مشاريع كبرى تشغل المليون شاب عاطل). والحكومة تُصرّ على إيهامنا بأنها تقترض لخلاص رواتبنا. نحن، العمال بالفكر والساعد، نحن لا ننتظر صدقة من أحد، نحن نعمل وننتج، ورواتبنا من عرقنا ولسنا عبيدًا أو أقنانًا عند صندوق النقد الدولي (FMI).
نحن نعرف أن البنوك لا تقرض إلا المواطنين القادرين على سداد ديونهم (الموظفين أو الأغنياء) أي لا تقرض الفقير أو البطال دون ضمان.
فلماذا يقرضنا صندوق النقد الدولي لو كانت تونس حقًّا دولة فقيرة وبلا ضمان؟ (مَفمّاش قطّوس يصطاد لربي!).
ضمان تونس -حسب رأيي المتواضع- هو عرقنا وثرواتنا الباطنية والفلاحية ومليون عامل بالخارج، فيهم على أقل تقدير مائة ألف دماغ مهاجر (أساتذة، أطباء، مهندسين، تقنيين سامين، إلخ.). أدمغة صرفنا على تكوينها أضعاف أضعاف قيمة القروض. فمن يا تُرى يُقرضُ الآخر؟ ومن يا تُرى عليه سداد الدين؟ FMI أم نحن؟

مثال للشرح والعِبرة:
أمريكا هي أغنى دولة في العالم وفي نفس الوقت هي أكبر دولة متداينة في العالَم (le pays le plus endetté dans le monde)، كذلك فرنسا (دَينٌ يُقدّرُ بألفَيْ مليار أورو، تُخصِّص الدولة سنويا لخلاص فوائده ميزانية أكبر من الميزانية التي تخصصها سنويا لوزارة التربية ووزارة الشغل الفرنسيتين مجتمعتين).
السؤال: كيف نفسر دولة غنية وتقترض؟ هل هي محتاجة؟ طبعًا لا. فلماذا إذن تقترض؟
لنأخذ مديونية فرنسا مثالا، أخذته من جريدتي المفضلة لوموند ديبلوماتيك الناطقة بالفرنسية (“وشهد شاهدٌ من أهلها”): دافعو الضرائب الفرنسيون هم من يموّلون البنك المركزي الفرنسي (مؤسسة حكومية في بعض الدول أو خاصة في البعض الآخر كفرنسا مثلاً وحديثًا تونس). البنك المركزي يُقرض البنوك الخاصة بفائض زهيد (وهي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك المركزي الأوروبي أو ما يُسمى عادة بالسوق المالية بجميع بنوكها الخاصة، الفرنسية أو متعددة الجنسية). وفي المقابل تقوم هذه البنوك الخاصة بإقراض جميع الدول دون أفضلية لأحد بما فيها فرنسا نفسها، تُقرضهم بفائض مُشِط (والدليل المديونية التي أفقرت وركّعت وذلّت اليونان مهدَ حضارتهم).
الاستنتاج من المثال: الدول كلها تقترض، لكنها لا تقترض لأنها فقيرة أو محتاجة (لقد قلنا سابقًا أن أمريكا هي أغنى دولة في العالم وفي نفس الوقت هي أكبر دولة متداينة في العالَم، وأنا أومن أن لا وجود لدول فقيرة بل يوجد حكّامٌ سُرّاقٌ ورأسماليون جشعون وأنظمة حكم فاسدة ومرتشية).
أكرر السؤال أعلاه: كيف نفسر دولة غنية وتقترض؟ هل هي محتاجة؟ طبعًا لا. فلماذا إذن تقترض؟
الجواب: حيلة جهنمية من حيل الرأسمالية العالمية لإضعاف وإنهاك الدولة لمصلحة الأغنياء والقطاع الخاص، تكتيكٌ شيطانيٌّ لنهب المال العام (عرقي وعرقك، ثرواتنا الباطنية والفلاحية)، نهبه بطرق تبدو للغافل شرعية وقانونية ويضيفون لها لقب علمية ويدرّسونها في أرقى الجامعات، أما أنا وأنت فلي ولك ربي ولن ينقذنا من شر الرأسمالية وحيلها، لا سعيّد ولا التبرّع ولو لمائة سنة.
أملي الوحيد والضئيل جدًّا يكمن في تغيير المنوال الاقتصادي تدريجيًّا حتى يتحول من منوال اقتصادي رأسمالي فردي حالي مبني على الربح المشط والمصلحة الخاصة الأنانية الضيقة أولاً إلى منوال اقتصادي اجتماعي مستقبلي مبني على التضامن والمصلحة العامة أولا، ولكم في تجربة جمنة الناجحة في الاقتصاد الاجتماعي التضامني حلاَّ جذريًّا وبديلا نموذجيًّا لو كنتم تعقلون والأوهام لا تصدقون.

خاتمة:
رجال الأعمال الجشعون ينهبون القروض والمال العام، والشعب بأكمله يدفعُ فاتورة ما أكله غيرُه!

إمضائي (مواطن العالَم، متعدّد الهُويات، l’homme semi-perméable، أصيل جمنة ولادةً وتربيةً، يساري غير ماركسي حر ومستقل، غاندي الهوى ومؤمن بمبدأ “الاستقامة الأخلاقية على المستوى الفردي” – Adepte de l’orthodoxie spirituelle à l’échelle individuelle):
“وإذا كانت كلماتي لا تبلغ فهمك، فدعها إذن إلى فجر آخر” (جبران)
À un mauvais discours, on répond par un bon discours et non par la violence. Le Monde diplomatique
تاريخ أول نشر على النت: حمام الشط في 23 أكتوبر 2019.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock