مقالات

من هم الذين صوّتوا للمعكرونة ؟

بشير العبيدي

أقولها وأمضي
النتائج الجزئية مازالت تظهر تقدم ثلاثة من المترشحين : أولهم الأستاذ الجامعي قيس سعيد، وثانيهم الأستاذ المحامي عبد الفتاح مورو، وثالثهم الموقوف على ذمة التحقيق نبيل القروي، وهو من رجال الأعمال وصاحب قناة فضائية، وشخص مثير للجدل بشكل كبير.
لماذا صوّت التونسيون هذا التصويت؟
أولا : هذه هي الديمقراطية المثيرة الرائعة التي من أجلها ثار التونسيون. لا يمكن معرفة الرئيس الذي يقرره الشعب، إلا بعد فرز جميع الأصوات. وكونها أخرجت هذه النتيجة، فهذا لا يزيد إلا من روعتها وبهائها وصلوحيتها لحل مشكلات الناس وإنهاء التنازع بينهم، رغم كونها تساوي في الأصوات بين العالم والجاهل، والفطن الذكي والنوكي الغبي. ولكن هذه الطريقة ولا الاستبداد الذي كلف العالم الاسلام بلايين البلايين ذهب هباء منثورا بسبب الطغيان والعمالة والنذالة والحروب القذرة. ولأجل ذلك تتآمر دول المؤامرات المتحدة على التجربة التونسية وتريد طمسها من الوجود، لأنها تسبب تجديد الطاقم كل خمس سنوات، فلا تبقي لأحد أي فرصة أن يهدر أموال الناس وأن يستبيح المقدسات…
ثانيا : منظومة الفساد وأنصار الاستبداد تلقت صفعة قوية، رغم كل المال الذي تم صبه من طرف متآمري الخارج وفاسدي الداخل، لم ينفع شيئا. جاء الانتخاب على ذوق التونسيين الواعين العارفين، فانتخبوا شخصا لم يسمعه التونسيون ولا مرة يتكلم بغير اللغة الفصيحة المتينة التي لا توجد إلا في أمهات الكتب، في قطيعة رمزية عالية مع منظومة استهانت باللغة العربية، وغلّبت عليها اللغات الاجنبية، وكانت تلوك في ألسنتها جملا وعبارات ترطن بها وتبين غرورها ومروقها من انتمائها ومن لغة شعبها صاحب مؤسسة الزيتونة العريقة. كلّ المترشحين من هذا الصنف المتبرقب للمناسبة تم تنحيته في “ديقاج” رائع ماتع منعش.
ثالثا : البقرة الحلوب الانتخابية، ممثلة في حزب النهضة، كان فضلها على تونس كبيرا عند من يفقه في السياسة، لأنها جنّبت تونس حربا أهلية كانت قاب قوسين أو أدنى. وهذا ليس هينا كإنجاز. غير أن ذلك لم يكن بلا ثمن. لقد صار ضرع البقرة الانتخابية ضامرا، والحليب المتبقي في الضرع ينزل من حلمات هذه البقرة في شكل خليط من حليب ودم، لأنه وصل إلى اللحم الحي. والظاهرة نفسها نراها في تركية، لأن انتخاب فئة معينة أو تيار بعينه ليس قدرا مقدورا، فمن انتخبك اليوم، قد يتركك غدا. ليس الحاكم من يقرر، بل الناخب. وهذا جوهر الديمقراطية وقوتها وبقية الأمور مجرد تفاصيل. إن التونسيين كانوا يريدون شرعية أخرى إضافة لشرعية النضال زمن الاستبداد، هي شرعية الاقتدار على الفساد والمافيا. والنهضة أعطت إشارات غير مطمئنة أن المنظومة الفاسدة أكبر منها. والسؤال الذي يخامر أذهان الناس: ما دمت غير قادر، تفضل استرح…. وهكذا، لم يشفع لها تاريخها النضالي، فالتاريخ النضالي ليس أصلا تجاريا، مثله مثل الدين. البقرة إذن لم تعد تدر حليبا، ولعل المرزوقي فهم ذلك هذه المرة، وما ذاك لكون البقرة الانتخابية لم تأكل عشبا، كلا. بل السبب هو أن البقرة الانتخابية المسكينة، صارت مدخلاتها لا تصنع حليبا، حتى أضحى الحليب ينضح من الرصيد النضالي، أي من اللحم. ولأن الرصيد النضالي تباعدت به السنوات، والأجيال الصاعدة بدأت تلتفت لاعتبارات أخرى، فكانت الصفعة موجعة، وإن كانت أقل إيلاما من الصفعة التي تم توجيهها للمنظومة الفاسدة وعلى رأسها رئيس الحكومة وصاحب الدبابتين والثالثة نسيتها ومن في لفّ هذا اللفيف المقرون والمفروق.
رابعا : لا يبدو لي أن الذين صوتوا لنبيل القروي، شُهِر معكرونة، فعلوا شيئا قبيحا. لقد تصرّفوا على حدّ ما تركت لهم قناة نسمة من عقول في إدراكهم، ومن وجه ما، أثبتوا أنهم أوفياء لأكياس المعكرونة التي أخذوها، وهم لا يعلمون – المساكين – أن ثمنها هو من أموالهم الجماعية التي سرقها هذا اللصّ الخطير والمتلوّن البذيء، ثم تصدّق بجزء ضئيل مما سرق من التونسيين. نعم، هذه الفئة من كبار السنّ لا ترى أطول من أرنبة أنوفها، ولا لوم عليها، كان يجب أن تأتيها الطبقة السياسية التونسية الثورية، وتشترك في أن تعطيها معكرونة، بشرط ألا تصوّت للمفسدين. ولأن الطبيعة تأبى الفراغ، جاء نبيل المعكرونة ووزع على الناس المعكرونة وكافأوه بأصواتهم. وهكذا، فالناس أوفياء في جهلهم، ولو كانوا مدركين لكان وفاء في إدراك. وهذه الطبقة التي صوتت لهذا المترشح المثير للجدل، هي الجيل الذي سبقنا، عجنه بورقيبة، وملّسه بن علي واغتصب وعيه نبيل القروي. من اشتغل عليه من أنصار الثورة؟ لا أحد. إذن فلنبلع السكّين بدمه.
خامسا : تلقى الإعلام التونسي بصقة انتخابية غير مسبوقة. تلك الوجوه الكالحة المتخشّبة، وهؤلاء الرهط الذي إن مرّت فوقهم سحابة غيث لا تمطر لشرّهم، وهؤلاء الذين يمدون وجوههم المتخشّبة في الإعلام المبتذل والناس لهم كارهون، وهؤلاء الذين لا شغل لهم إلا شتم النهضة وتكريه الناس في أصلها وترذيل كل شريف وإعلاء كل دنيء، ذلك الإعلام المجرم المتجرّئ على عقيدة الشعب ولغته وانتمائه وأخلاقه، ذلك الإعلام الذي لا ينفك عن تمجيد البورقيبية المقيتة اللعينة، تلقى هو وبورقيبيته، شيئا على وجهه اليابس من ماء الحياء ما يستحقه من مادة مرطّبة، يلطّف بها جلده في قادم الأيام. فليعلم من لا يريد أن يفهم أن البورقيبية بكل ما تعنيه من وهم انتهت، أو هي بصدد لفظ آخر أنفاسها.
لقد كتبت مرارا وتكرارا: كن حرا، ثم كن بعد ذلك ما تشاء. ومازال الشعب التونسي الحرّ في جعبته من العجائب ما يجعل منها قصة وعبرة. وبحذو الشعب التونسي، شعب تونسي آخر اسمه شعب الجزائر، يعطي أيضا كل أسبوع درسا للطغاة، وعندي أن التاريخ سيكتب ثورة عارمة في بلاد العرب بدأت فصولها الجدية من تونس والجزائر.
الآن الرؤية بدأت تتضح أكثر : بعد القضاء على الفاسدين، ستباشر الشعوب بناء أوطانها مندمجة ومتعاونة مع بعضها البعض. ولن تلتفت لأصحاب الأنا. ولى عهد الأنا، ودخلنا عهد نحن.
فلا عاش في تونس (والجزائر وكل أرض الله) من خانها
ولا عاش من ليس من جندها
نموت ونحيا على عهدها
حياة الكرام وموت العظام.
✍🏽 #بشير_العبيدي | محرّم1441 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تصْنَعُ أمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock