مقالات

وادي العوانس..

نصر الدين السويلمي

زهرات القرية
كان ذلك يوم الأحد.. كانت الأوراق الصفراء المتناثرة تؤكد أنه فصل الخريف، عند منتصف ذلك النهار ذهبت خيرة الى زيارة جارتها تفّاحة، فقد أنجبت لتوّها بنتا، اصطحبت خيرة ابنتها سميّة التي لم تنهِ السّنة الأولى من عمرها، ولما وصلتا إلى البيت جلست سميّة بجانب البنيّة ترقبها باهتمام كبير، كانت المولودة التي سمّاها أبوها سعاد جميلة جدا، كثيرة الحركة، عيناها حلوة وأذناها صغيرتان، لمست سميّة يدها واقتربت منها حتى التصقت بها.. سميّة أيضا كانت جميلة وعندها ضفيرة وشعرها يلمع من جراء زيت الزيتون الذي وضعته لها أمها، لأنّ الخالة شهيبة حكيمة القرية قالت أنّ زيت الزيتون يطوّل الشعر ويمنعه من التساقط، وكل نساء القرية يصدقن الخالة شهيبة رغم أنّ بناتها الثلاث شعرهن قصير حتى أنّ واحدة منهن سقط أغلب شعرها وكادت تتحول إلى صلعاء.
تتابعت الأيام على القرية ذات الملامح الريفيّة التي يغلب عليها سمت البداوة لافتقارها إلى المرافق القرويّة الدنيا، أصبحت سميّة تمشي ثم تجري وكذلك الأمر مع سعاد، وتعوّدتا اللعب مع بعضهما ثم انضمّت إليهما ثلاث بنات يسكن خلف الوادي في الشطر الآخر من القرية.
سارت الحياة مثلما تسير في كل القرى المنعزلة وذهبت الفتيات الخمس إلى المدرسة فرحات مقبلات بشراهة على عالمهن الجديد، اجتهدن في التعليم فكانت سعاد متفوقة في التعبير الكتابي والشفاهي، أمّا سميّة فكانت متفوقة في المحفوظات وحفظ القرآن وكانت ذكيّة جدا تحفظ بسرعة، حتى أنّ الخالة شهيبة الحكيمة قالت إنّها “طفلة مبروكة”، أمّا تركيّة وصديقاتها فكنّ نبيهات في الحساب.
عقبات في وجه العلم
تجاوزت البنات السنة السادسة ابتدائي بنجاح” البناويت خذوا السيزيام”. خلال العطلة الصيفيّة لم تكن واحدة منهن قد عرفت الخطوة الموالية، لأنّ أقرب المعاهد يبعد أميالا عن القرية والتسجيل في المبيت يتطلب أموالا هي بالنسبة لآبائهن ثروة، الأفواه المفتوحة والبطون الخاوية أولى بها من الحساب الجاري لوزارة التربية والتعليم.
خلال شمس “أوسّو” كانت أغلب الفتيات منهمكات في الحصاد، تركيّة فقط كان أبوها يملك مساحة زرعها قمحا لذا فهي تباشر الحصاد في حقلهم، أمّا البقية “خمّاسة” يشتغلن مع آبائهن وأمهاتهن بالخمس، وفي الهجير يتمتعن بقسط من الراحة يستغللنه في تلاقف الحديث وهن متكئات على “النادر” أو “حلل القمح” المتراكمة يطلبن الظل، ويتحدثن عن أمل الذهاب إلى المدينة والتسجيل في المعهد، ولما لا دخول المبيت، يتبادلن الكلام وهنّ منهمكات في أكل “القليّة” وإعداد “الشّواط”.
كان اليوم جمعة، حين اصطحب العياشي بقيّة الآباء لحضور الخطبة بجامع المدينة الكبير، وصادف أن تحدّث الإمام عن المرأة في الإسلام، وكان لهذه الخطبة الوقع الحسن وبدأت فكرة المعهد تغازل الآباء.. ثم كان أن صادفهم خطاب للرئيس الحبيب بورقيبة حول حريّة المرأة ودورها في المجتمع خلال تواجدهم في مقهى المدينة التي قصدوها لقضاء بعض شؤونهم.. وتراوحت متابعتهم بين التركيز والإصغاء والاستماع العابر، ما عدا العياشي الذي كان يتشاغل عن الخطاب ببقيّة القهوة الراكدة في قاع الكأس والتي علتها طبقة من الغبار.. كان يحرّك الحثالة ويتمتم! والهيشري ينهره من الحين للآخر: يا ولدي اسكت علينا!!! لكن العمّ العياشي ما يلبث أن يعود إلى الهمهمة كلما يعلو الهتاف في المذياع “يحيا بورقيبة.. يحيا بورقيبة” ولا أحد يفهم ما يقوله العياشي ولا سبب تذمّر صاحبه… فجأة يقفز الهيشري كالمذعور يسقط كرسيه ويتعثر في الآخر، تلتحق به المجموعة لكنّه لم يلتفت إلا عندما غادر العمران، استدار وقال :” اسمع يا العياشي إذا كان إنت عمرك عمر شقى أنا عندي طفلة نحبّ نكبرها.. رأسك يابس قلت ليك من هاك العام بورقيبة مشو ساهل إذا كان صاحبك وما أدراك تبعو حتى لألمانيا وقضى عليه، زعمة باش تكيدو أنت؟ يزي يا راجل يزي من العناد، منعك ربي من فم صيد وما زلت ما شعفتش، جبت بنت الناس خليتها في الدار وهجيت لسوق هراس، في بالك الدساترة باش ينسوا ليك المكاحل إللي خزنتها في المطمور ومشيانك لقاعدة غار الدماء وإتصالك بالعقيد بوخروبة !! وبالله زيد قلي آخي ما تفيقش على روحك! سيبت ربي وعبدت صوت العرب، عبد الناصر هذا إللي نهار ربي وأنت تدوّر في الموجة متاع الراديون تفتش على خبارو! مشو هو إللي ضيع صاحبك وخلاه هايم في بلاد الرّواما حتى تصيدو بورقيبة”.
ساد الصمت معظم الطريق وتخلّف العياشي على المجموعة شارد الذهن، فتقدّم أحدهم وقال: “الله يهديك يا الهيشري لزيت ليه بالعيب محقكش.. وعلا صوت آخر هيا يا جماعة انعلوا إبليس خلينا من المشاكل متاعكم، هيا واش قلتوا تكورجوا ونبعثوا البناويت يقروا وربكم يحلّها..”، ثم يبتسم ويستطرد” يا سيدي مشوا من على خاطر كلام بورقيبة اللي قالو اليوم ، خلينا نقولوا على خاطر كلام إمام الجمعة إللي سمعناه هاك النهار”، قهقه العياشي وقال” هيّا يد الله مع الجماعة”.
محاولات يائسة
تشجع الآباء وذلّلوا المصاعب بالأقوال والتمنّي، وتحت إغراء القمر المنير وحرارة أكواب الشاي الساخنة وفي لحظة حماسة اتفق الجميع على أنّ البنات بإمكانهن الذهاب إلى المعهد والعودة معا ومسافة العشر كيلومترات ليست شيئا أمام صبايا مثل اللبؤات.
مرّ الشهر الأول بحلوه ومرّه تحميه لذّة التكافل وتشحنه أنفاس الجماعة، فالفرح الكبير الذي غمر بُنيّات القرية هون عليهن ما تعرّضن له من تحرّش أصحاب الجرارات وبعض الرعاة وهجوم الكلاب كلما مررن في طريقهن “بالدوّاوير”، إضافة إلى الجوع وتعب الطريق.. لكن لم يمض والقت الطويل حتى بدأ حلف التلميذات في الانفراط، بعدما عزم المرغني على بيع الكبش ودفع ثمن مبيت ابنته تركيّة!.
إثر هذه الخطوة ثارت ثائرة الآباء واتهموا المرغني بالأنانيّة ونقض العهد، ولم يكن حينها أحد من هؤلاء يعلم أنّ الرجل فعل ذلك بعد أن أتاه أحد الرعاة يطلب يد ابنته ولمّح إلى أنّه تحدث معها أكثر من مرّة خلال ذهابها وإيابها، ووعده بأربعة “نعاج عشار أو ثلاثة بعلاليشهم”، كان الراعي في عقده السادس وجميع أولاده أكبر من تركيّة!!!
لم تنته السنة الأولى حتى كان والد سعاد قد أودع ابنته عند قريبه في المدينة واثنتان انقطعتا عن الدراسة، أمّا العياشي والد سميّة فقد تحصّل على عمل بالليل “عساس” في منبت الحلفاء وفي النهار يرافق ابنته إلى المعهد ثم ينام في بيت مهجور تابع للسكك الحديدية.
في العام الموالي انتهت مسيرة تركيّة ثم تبعتها سميّة إثر طرد أبيها من المنبت بعد أن اكتشف شيخ العرش الأمر الذي غاب عنه والمصيبة التي اقترفتها يداه، وسمع معتمد الجهة بالخبر الصاعقة وعربد وزمجر “يوسفي في المنبت وعيني حيّة يا ولاد الكلب! يوسفي يتمتع بخيرات بورقيبة! أعداء الوطن يخدموا في تونس ويتنعموا بفلوسها، خائن متآمر مندس في مؤسسات الدولة؟؟ هالناس هذي الموت وشوي فيها..”.
حين يستفحل العداء ويتخمّر يصبح منبت الحلفاء النائي المهجور الموحش مؤسسات دولة وتتضخم الخمس ليترات زيت صانقو وعشرة كيلو سميد حمعلّة وشكارة قمح كروبيطة أجرة العياشي الشهرية فتصبح فلوس الوطن!!..
بعد أيام عصيبة مشحونة بالرعب عاشها شيخ العرش خوفا من ردّة الفعل والعقاب المتوقع، دعي أخيرا إلى معتمدية الجهة وبحضور رئيس مركز الحرس الوطني والكاتب العام للجنة التنسيق استتابة المعتمد فتاب، فخلى سبيله مع إعفائه من مهامه وضمان مقرّ سكناه.
اضطر العياشي للبحث عن عمل بالنهار، ودفعا لثمن جريمة وجناية وكارثة يوسفيّة أبيها استراحت سميّة من فضيلة العلم والرقي والطموح وتفرّغت لمعاقرة اليأس..بينما واصلت سعاد مسيرتها المشوبة..
بهذا انتهت تجربة الفتيات الأربع مع العلم واستسلمن إلى الواقع الجديد في حين كنّ يغبطن سعاد على حظّها الأوفر، لأنّه شتان بين من تتأبط كراسات وأقلام وتنهل من القسم وتمرح في الساحة وبين من يمسين على علف المواشي ويصبحن على تنقية الزريبة من فضلات”الهوش”.
الضحيّة
حراك غير عادي في بيت العمّة تفّاحة.. فجأة سدّوا الأبواب وتملّصوا من الزيارات وما لبث أن شاع الخبر!!… سعاد انقطعت عن الدراسة وستتزوج!!.. تتزوج في هذا السنّ المبكر!! هكذا بسرعة ودون مقدّمات؟؟؟ نعم تزوجت سعاد من ابن قريبهم الذي كانت تسكن عنده خلال السنّة الدراسيّة، ودار همسا بين نسوة القرية عن بطنها المنتفخ وأشياء أخرى هي من خصائص مجالس النميمة التي لا ترحم.
بعد أن ذهبت مع زوجها بأشهر معدودات عادت سعاد.. لم تكن زائرة.. بل عادت مطلقة إلى القرية وبرفقتها رضيع!! بعض النسوة تبجحن بقدراتهن على كشف الأمر منذ يوم الزفاف بل منذ عادت الفتاة إلى بيت أهلها في أجواء مشبوهة، وأحسنهن ظنّا قالت:” لقد سبّعت سعاد ،جنين سبوعي!!..”، فأجابتها إحداهن:” لم تمرّ سبعة أشهرعلى زواجها..”، قالت :”ربما سدوسي”. قلن :”ليس هناك سدوسي والمدّة أقل من ستة أشهر..”، قالت:” سمعت من خالتي شهيبة الحكيمة أنّ هناك أيضا خموسي وربوعي، اتقوا مولاكم إنّ الله يخلق ما يشاء!!!”
حين تتهشم الأحلام
كيفما كان الحال وعلى أيّ طبقة من طبقات المأساة الداكنة الخاثرة التأم شمل الفتيات ونجح الفشل في تحجيم الحلم ووأد الأمل ورجعن إلى التحلق في الوادي يدسّسن أقدامهن في تربته الناعمة بعد أن ينهين مشاغل يومهن المجهدة، رغم كل شيء تتعالى الضحكات وتتمايل عبر ثنايا الوادي مخترقة نبتة الحلفاء القاسية والشاهد الوحيد النزيه على تفاصيل جرائم كبيرة وكثيرة اقترفتها مدنيّة انتهازية سفيهة في حق ما يفترض أنّه “جنس ناعم”.
لم تعد الأجسام تلك النحيفة الخفيفة بدأت تتوسّع وتعتريها عوارض أخرى.. إنّها خصائص النساء حين تزحف على أجسام البنات ورائحة الأنوثة تغزو عبق الطفولة تجلب التكليف والتكاليف فتصيب الحاضر بالارتباك وينهمك العقل تحت ضغط الغد في إفراز مادة القلق وهواجس القادم ويشرع التفكير في تغيير وجهة قنواته ويصبح الهاجس فيما بعد بيت الأسرة الدافئ!! وهل من فارس أو عابر أو طارق أو سائل أو راغب أو ناشد؟؟!!.
حبّات رمل الواد ومن فرط أمانتها حفظت أحلام الصبايا، هنا في هذا الواد تحلّل حلم الأمير والقصر والخدم، وتبخر حلم الفارس الذي يأتي على الحصان الأبيض كما تفتت حلم الطبيب والعيادة والثري والفيلا الكبيرة البيضاء التي تحفّها حديقةٌ أزهارها تغلب أشجارها.. تراجع منسوب الحلم إلى موظف أو شهار أو عامل يومي أوحتى خدّام حزام.. مع هجمة السنين أصيبت أحلام الصبايا بانهيار دراماتيكي حتى أصبح المطلوب رقم واحد “ذكر”ويستحب أن يكون من فصيلة البشر.
الأمل الأخير
يبدو أنّ الحظ يبتسم من جديد أقلّها لواحدة علّها تكون فاتحة خير على الأخريات.. فعارم منشغلة هذه الأيام بعدّة ترتيبات لأنّ أحد أصدقاء خالها سيأتي لخطبتها. أعطتها سعاد الشال، وأعطتها سميّة حذائها ذو الكعب العالي.. وتداعت الفتيات كل تأتي بأفضل ما لديها على بساطته.. “البناويت يزينوا في العروس”.
مرّ يوم السبت، اليوم الموعود ولم يهل الخاطب ولا أحد من أهله ولا حتى أرسلوا من يعتذر، وفي مساء يوم الأحد جاء الخال بالخبر السيئ، فصديقه ألقي عليه القبض بتهمة التخريب والسرقة الموصوفة مع استعمال العنف، وحيثيّات البحث كشفت أنّه متورط في اقتحام مستودع الحبوب وسرقة محتوياته أثناء أحداث الخبز كما وجهت إليه تهمة رشق دبابات الجيش بالحجار والقوارير الحارقة، صرخت عارم :”مشو بورقيبة بفمو قال نرجعوا وين كنا”..
قال الخال: “نعم… قال نرجعوا وين كنا على سعر الخبز مشو على الناس إللي نشطت المسيرات وشاركت في الصدامات”..
قالت: “قلي الحقيقة خالي صاحبك متورط في السرقة؟؟”
قال: “يا بنتي يسالوهالوا ، شادين ليه البونتو من اليوم إللي مشى لصفاقس وقابل الحبيب عاشور هو وجماعة الاتحاد”.
قالت:” علاش يعملولوا هكّا ما يخافوش من ربي ؟؟؟”
قهقه الخال قه قه قه قه.. بنيّة أختي قالت “ما يخافوش من ربي !!! قه قه قه”
“بري تو ربي يسهل بنيّة أختي هيا خليني نمشي نرقد صابح نخدم..”
تصبح على خير، تمتمت عارم “خيييير!!مدري منين باش يجي هالخير”!
حكم الزمن
تغيّرت ملامح الخدود المتورّدة التي تكاد تنفجر من كثافة الدماء المتزاحمة على رقعة الوجه الراعي الأول لجمال ريفي خضّبه الصنوبر وارتوى من قطرات النو ولقّحه نوار اللوز، واعتلت الوجوه صفرة وارتخت من الشدّ المفرط وتراجع منسوب الدماء على المحيّا وارتخت الأجسام بعد أن استراحت أعصابها من الترقّب والتحفّز والاستعداد وساهم الاستسلام في بسط السكينة والرضى، وبدأت السنين تتعلق بالأجسام وتشدّها إلى الأسفل فتستسلم مستجيبة إلى دعوة الترهل.. إنّه الزمن منهمك في إعادة برمجة الجسم ينزع مكثفات الشباب ويعطل وتيرة النمو لينسحب الصبا خائبا خاويا، ويترك المجال للشيب والتجاعيد تتناوب على أجسام تواطأت عليها حكومات الاستقلال مثلما تواطأت حكومات الاستعمار على أجسام جداتها!
كان اليوم باردا، تداخلت وتداولت فيه السحب البيضاء والداكنة على السماء، والشمس مغلوبة على أمرها تلوي عنقها تسترق الفجوات تبحث عن خرم تطلّ منه على عارم صغرى البنات التي وما إن انسحب هذا اليوم من عقد عمرها حتى وقعت في “هفهوف” العقد السادس!! خمسون عاما مرّت منذ أطلقت عارم عقيرتها بالصياح مؤذنة قدومها إلى دنيا الصراع..
سميّة ملتحفة تشدّ “المحرمة” على رأسها تحاذيها وتسألها: “زعما علاش ما جاش مكتوبنا لتو، والبنات الي سبقونا بكلهم عرسوا.. ما بقت منهم كان السيْدة ولكلنا نعرفوا حالها ربي يفرج عليها..؟
قالت تركية : نحن والهوش كيف كيف، جدب في الرجال وجدب في الحشيش، عنا كعبتين، الي هج لليبيا هج ولي خش تونس خش، باش يخلو بناويت تونس ويرجعوا لينا نحن!
قطعت سعاد الحوار: “بناويت تونس ما يزيدوا علينا في شيء، وكان نقدوا رواحنا نولو خير منهم.. هاك النهار حنيت شعري ومشيت نغسل في الصوف في الواد النساء الكل قالولي قداش طلعت عليك الحنّة… خلينا من هذا الكلّ يقولوا إلي بن علي في مشروع التنمية الريفية الجديد باش يعطي لكل عانس ما تخدمش بقرة..”، غضبت عارم وذهبت ملوّحة بيدها: “أنا نقلّها راجل وهي تقلّي بقرة وكان قلتيلي ثور…. خير”.
انتهت أحلام الزواج والزغاريد والرجل والبيت والحمل والوضع والأطفال والرضاعة… لن تجد العوانس رضيعا يقلن له مثلما قالت لهنّ أمهاتهن “نني نني جاك النوم أمك قمرة وأبيك نجوم”.. حلم بركت عليه خمس عقود ثقال فأسلم الروح هاجعا تحتهن.
بصيص من الأمل تتعلق به العوانس ويشممن عليه رائحة الحياة وأعمار فاشلة مسّها عقم مستديم، أمل تمثل في السبتي ابن سعاد “الثيب العانس”.. كل العوانس شرقنا ببكاء الفرح عندما تجاوز السبتي البكالوريا.. جميعهن تقمّصن.. انغمسن.. ذبن في شعور الأمومة، يترقبن اليوم الذي يأتي فيه الطالب من العاصمة فيتحلقن حوله ينهكنه بالاستفسارات وينهكهن بالعبارات الدخيلة عنهن وعن قريتهن.. يمعن السبتي في إتحافهن بحفلة من الألفاظ الدخيلة، كومبيس! فوايي! ميترو! بيان! مؤتمر!!! لافوني! ، كوليزي!، باساج!.. ترسل إحداهن صرخة مشحونة بالغبطة والإعجاب الممسوس بتهكم لطيف ” هاه ڤلي السبتي يكلم فينا بالسوري”… هكذا كان الاستمتاع بالسبتي الجوهرة الوحيدة التي استنقذنها من بين فكي عقود دخيلة على حركة الزمن.
الدولة ضد العوانس
مرّة أخرى تحلّ الانتكاسة بساحة العوانس فاليوم أعيدت “القضية” التي ترسل إلى السبتي من حين لآخر، شيء من البيض العربي والكسرة والبسيسة أعادتها زوجة سائق الحافلة التي تعوّد إيصالها إلى السبتي بحكم عمله على خطّ العاصمة وقالت بأنّ زوجها لن يحمل شيئا بعد اليوم وأنّه يترجى عدم الاتصال به بتاتا وعدم ذكر ما قام به لأحد مهما كان وإنكار معرفته أصلا، واجتهدت العوانس في انتزاع أسباب أو ملامح أسباب هذا الموقف المفاجئ. لكن المرأة لاذت بتكتم عجيب يبدو أنّ خلفه توصيات صارمة ما خلّف حيرة متفاقمة لدى الأمهات.
بعد تعب وشقاء وبيع لأغراض واقتراض وتردد على المدينة وعلى العاصمة ورجاء وإلحاح واستجداء وإهانات وتجاهل، بدأت تتكشف الفصول الغامضة وأتى الخبر اليقين في حدوثه، المتشعب في أسبابه، فسعاد وعوانسها بصدد شاب في قبضة فرق أمنيّة خاصّة! هذا الخبر اليقين!!.. أمّا الأسباب فأتت على ثلاث روايات متباينات، أولاها تقول أنّ السبتي هو ذلك الشاب المتدين الذي يمارس الدعوة إلى الله ضمن حركة إسلاميّة إصلاحيّة ، ألقي عليه القبض على خلفيّة تديّنه ونشاطه الدعوي.. والثانية تقول أنّه سجين رأي لدواعي سياسيّة.. أمّا الثالثة فتتحدث عن متطرف ينشط ضمن عصابة مخربين أشرار ألقت عليه أجهزة الدولة القبض لتحمي البلاد والعباد من شروره وشرور العصابة التي ينتمي إليها..
لملمت الأحداث نفسها، جمعت الصورة أجزائها، نقت.. صفت.. رصّت.. واستقرت على مشهد أخير! طالب في مرحلته الثالثة محكوم بثمانية عشر سنة سجنا نافذا، وأمّ مسنودة “بأمهات” عاجزات ذهب الحياء من وجهها من فرط طوافها على الأقارب والمعارف والجيران تستجدي ثمن الحافلة ومتطلبات القفّة.. تقف أمام سجن برج الرومي يؤزها الصقيع، ترمقها عيون الحراس ويسترها سفساري قديم أقدم من مصائبها، تلفّه عنها تشدّ أطرافه بفمها ليخرج عليها الحارس بعد ساعتين من الترقب قائلا:” ولدك نقلوه يا مرا”.. تستعجله بلهفة: “وين؟”. لكنّه يتوارى ليعود بعد ثلاث ساعات مشمئزا متثاقلا: “ولدك في حربوب!”.. تصرخ “حربوب واش باش يوصلني نايا لحربوب؟؟”.
تسرح باحثة عن حلّ وهي تعرف جيدا أنّ الحلول قد يصنعنها نساء المجتمع المدني وليس نساء المجتمع البدوي وعليها أن تتأقلم مع قرارات الدولة الراعي الرسمي لمصيرها ومصير ابنها، ومن اليوم وبقرار سيادي ستقطع هذه المعدمة مع موسم الرحلات باتجاه الشمال وستتأبط قفّة سجينها وتشرع في سلسلة رحلاتها باتجاه الجنوب.
هكذا أرادت الجهات الرسميّة
تجمّعت النسوة في مقرّهن الوفي بين أحضان الوادي يغزلن حلما اسمه السبتي الذي حتما سيعود في يوم ما ، ويذبحن له خروفا سمينا ويزوّجنه وافية بنت الحاج التهامي، وطُرحت أسماء بنات أخريات يزاحمن وافية على العريس الذي لا الخطيبات المفترضات ولا الأمهات يعلمن أنّه قد أصيب بخلل عقلي نتيجة التعذيب الوحشي أخرجه تماما من دائرة التكليف.. وهنّ على ذلك مرّت بهن العجوز سعادة ورمت يدها على جبينها تحدق في المتحلقات ولما خانها بصرها سألتهن:” شكون هذوكا؟؟”.. قالت تركيّة:” نحن العوانس الأربع وهذه سعاد التي….” ألجمت سميّة فمها وقالت:” نحن الخمس العوانس يا خالة”، ابتسمت الخالة سعادة وقالت:” ما شفتوش نعجة درعاء خليتها قبل شوي في السهب؟”، ولما أجبن بالنفي، انصرفت خائبة..تضامن سكان القرية مع العجوز وحزنوا لحزنها وتناقلوا أنّ النعجة الدرعاء ضاعت في وادي العوانس.
يلهو الأمل بسعاد كما تلهو السّياط بابنها، يصنع الأمل للأم المحروقة محطات ينمّقها لها لتتغذى عليها، تترقب الأم بلهفة محطات الوهم ..وهم عفو رئاسي طال انتظاره .. قبل يوم من العيد الصغير.. قبل يوم من العيد الكبير.. قبل يوم من 7نوفمبر.. قبل يوم من عيد الجمهوريّة.. قبل يوم من عيد المرأة.. قبل يوم من عيد الشجرة.. قبل يوم من عيد الحجرة.. لكنّ اليوم المنشود غاب وغيب معه الخبر السعيد.. كل عام تعبث هذه المواعيد بأعصاب أم السجين تهدهدها، تمخضها وتحيلها إلى هشيم..
أحد شيوخ القرية ومثقفها العصامي بحكم المذياع الذي يملكه ثم بحكم تردده على مقاهي المدينة نصحها بالتوجه إلى القصر ومقابلة الرئيس، اقتنصت الفكرة ولم تتردد وعند ملامح الفجر كانت سيارة الأجرة “اللواج” تطوي الأرض طيّا باتجاه العاصمة، وكانت سعاد خانسة في المقعد الخلفي تنسج سيناريو اللقاء، أقرب الصور التي تداهمها بعد أن تروي مأساتها لصانع التغيير ، تفر دمعة من عيون سيدة تونس الاولى التي تراقب المشهد على بعد أمتار وهي بصدد التفاعل مع مأساة سعاد بقلب يكاد يتفطر، يطأطئ الرئيس رأسه ويحوقل ويسترجع ثم ينادي الحارس” أطلق لها سجينها”، ويرأف بحالها الكئيب فيأمر لها بكسوتين واحدة للشتاء وأخرى للصيف وربما أعطاها شيئا من المصروف.. وربما بالغ في العطف فتبرع لها بشكارة سميد أحرش وشكارة سميد رطب، من يدري؟!!..
وصلت الأم بعد أن دلّوها على الطريق المؤدية إلى القصر ، لا تعرف أين تتواجد الآن، المهم هي في حضرة شرطيين، يسألها أحدهما:” أشكون أنت؟” أجابت: ” نايا سعاد “… “وين ماشية ؟” بتلقائية ” لا وليدي هاني هنا بركة باش نقابل الرئيس”، يتراجع إلى الخلف وينفجر ضاحكا يغمزه صاحبه:” تي خلي بربي سعاد اليعقوبي الوحشي تتعدى “.. قالت: ” لا وليدي اسمي سعاد العتاتري” قال: ” بري بري.. روحي يا مرا الرئيس عندو عرس كبيـــر اليوم، أرجعي نهار، آخر ثم نهرها: برّي عـــــاد…”.. عادت سعاد بلا شيء تصارع خيبتها وتصارع معها الأمطار الغزيرة والأوحال التي صادفتها في الطريق بعد أن لفظتها “اللواج” على بعد كيلومترات من شبه بيتها.. تنتزع سعاد قدميها بصعوبة من الوحل “الطبعة”، تقرعها الأمطار الغزيرة قرعا وهي تسترق النظر إلى السماء كأنّها تستعجل صاعقة تسدل الستار على فصول مأساتها..
أتراح في القرية وأفراح في القصر
عندما كان الرئيس يستقبل الأمراء وأصحاب السمو وبعض الوزراء ووجهاء اللجنة المركزية والسّادة والسيدات الذين تقاطروا يهنئونه بزواج كريمته من الشاب الوسيم رجل الأعمال البالغ الثراء وابن رجل الاعمال الثري، وفي اللحظة التي يقلّد الجنرال ابنته عقد اللؤلؤ الثمين كانت سعاد كتلة سوداء تتقاذفها أمواج وادي الحطب تسارع بها إلى مصب آمن ..
عاشت الأم العانس في وادي الرمل وماتت في وادي الحطب ولم يسعفها مؤتمر بيكين ولا مؤتمر القاهرة للسكان ولا غيرها من المؤتمرات السابقة التي تعتني بالانثى السلعة وليس لها في الانثى البشر، ولا حتى اسعفتها بعض جمعيّات الدفاع عن حقوق المرأة..، الجمعيّات التي تجنّدت للدفاع عن حقّ السحاق، ولم تفرد ولو حيّزا ضيّقا للدفاع عن حقّ الحياة.. وداعا سعاد.. وداعــــــــــــــــــــا !!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock