تدوينات تونسية

الاتحاد والمافيا

نور الدين الغيلوفي

لا يزال مكتبُ الاتّحاد العام التونسي للشغل التنفيذيُّ يستكمل اللعبة التي كانت تلعبها بيروقراطية نقابية رافقت نظام بورقيبة وسكنت حجر بن علي من بعده تأكل من عطائه وتحرسه لا تكاد تفارقه طوال حكمه الذي طال بسبب ما كان من قبضته الحديدية وبما كان يلقى من دعمها.. وقد كان أسوأ أمين عام عرفته المنظّمة هو السيد عبد السلام جراد الذي بقي أمينا عامّا على مقاس بن علي ونظامه المافيوزيّ حتّى هروبه.. نجح جراد مع الزمرة التي حوله في تحويل الاتّحاد من منظّمة مدنية اجتماعيّة تحمي الكادحين إلى ذراع يستعملها نظام الفساد والاستبداد في ترويض العمّال والبطش بهم واستنزاف جهودهم وقطع أرزاقهم أحيانا..
وهؤلاء المقيمون في بناية حشّاد الآن ما هم سوى تَرِكة جراد ورثوا سيرته في البلاد لا يحيدون عنها…
كان بن علي يحكم بواجهتين: واجهة سياسية هي التجمع صنعها على عينه وواجهة نقابية هي مكتب الاتّحاد التنفيذيّ نجح في ترويضها وابتزازها.. وقد احتالت منظومة ما بعد 14 جانفي على الشعب لمّا حلّت التجمّع وأبقت على الاتّحاد مثل طاووس في حديقة للحيوان لا يسأله أحد عن شيء ممّا يفعل… وما استطاعت المنظومة القديمة العودة إلى التحكّم إلّا بفضل مساعدة الاتّحاد الذي أعلن الحرب على تشكيلة أكتوبر 2011 بدعاوى فرّقت التونسيّين بدل أن تجمّعهم لمّا انحازت قيادته إلى اعتصام الروز بالفاكية الذي موّله رجال أعمال تضرّروا من الثورة وأنفقوا الغالي والنفيس لأجل وأدها.. ولمّا أكل الجميع من المائدة المنزّلة عليهم من الدولة العميقة اختلطت دماؤهم وحَرُم بعضهم على بعض بفعل صلة الأمعاء.. كان لا بدّ للمنظومة المحتالة للعودة من ظهر قويّ تستند إليه في حربها على الثورة والذين جاءت بهم.. وجاء الاتحاد ليعرض خدماته فكان هو الظهر الذي أُتيت من جهته الثورة والشعب…
هل كانت مساندة الاتحاد لهؤلاء مجانية؟
قد نخطئ عندما نختزل المنظمة في يسار يتمترس خلفها لمناكفة خصومه الإيديولوجيين.. المسألة في تصوّري ليست إيديولوجية لأنّ القيادات النقابية متى سكنت ذاك الوكر خلعت جبّة الإيديولوجيا وتحوّلت إلى جهاز يعرض خدماته لجهات المنح بمقابل.. وبذلك نشأت شراكة “كاثوليكيّة” بين اللص والحارس: يتغافل الحارس عن اللص لقاء ثمن يدفعه إليه.. وإن لزم الأمر يتدخل الحارس لصالح اللص.. ولكلّ شيء ثمن… اللصّ يملك المال والحارس أشبه “بفتوّة” يأخذ منه أتاوة لقاء خدمات يقدّمها له..
ليس بين الحارس واللص ثقة مطلقة ولكن المصلحة مشتركة.. ولمّا كانت مصلحة اللص في أن ينهب ويحتال وينتهك القانون ويفلت من العقاب فهو يحتاج سندا قويّا.. بل يحتاج أن تحميَه “أكبر قوّة في البلاد” كما لا يفتأ “الفتوّات” يردّدون.. بذلك يكون اللصوص أقوى من الدولة ذاتها.. وليذهب القانون والثورة والدولة إلى الجحيم…
رجال الأعمال الفاسدون يقودون حربا شعواء ضدّ الانتقال الذي تشهده البلاد وقد أرسلوا قيادة الاتّحاد توقف عجلة التغيير عن الدوران حتّى تسلّل الملل إلى الناس ودبّ اليأس ومات أملهم في تغيير يصيبهم منه نفع.. لذلك كلّما اقتربت البلاد من استحقاق شبّ لهيب الإضرابات وتعطّلت الأعمال وتعكّرت الأجواء واستحال قدوم من يمكن أن يستثمر له في البلاد مالًا ينتفع منه وينفعها به كما يجري في بلاد الدنيا…
في أفق الانتخابات الرئاسية تتعطّل خدمات البريد التونسيّ وتنقضي أوقات الناس على قارعة الطريق في انتظار ما لا يأتي…
لست هنا في وارد مناقشة البريديين في حقوقهم المشروعة.. والكادحون في البلاد جميعا يعانون ظلما مركّبا ليست الحكومة بريئة منه.. ولكنّ القيادات النقابيّة شريكة لها لأنّها تلعب على حبال شتّى وعينها على نسبة المنح وما يجري تحت الطاولات.. حتّى لقد صار النقابيون الكبار قططا سمانًا يجدر أن يُسألوا قبل غيرهم: من أين لك هذا؟
الناس لن تنسى عرسا خرافيا لابن قياديّ نقابيّ أنفق فيه المناضل الكبير ما يحلّ أزمة مدينة كبرى ويزيد…
الحارس تسلّح بالابتزاز فانقلب إلى لصّ بعد أن كان عاملا لدى اللصّ…
رحم الله فرحات حشّاد..
فخلَف من بعده خَلْفٌ…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock