تدوينات تونسية

عرّاب تونس

ليلى حاج عمر

“بم يفيدني الاعتراف إذا لم أكن أنوي التوبة؟” هكذا يقول مارلون براندو على لسان بطل الفيلم العالمي: العرّاب (The Godfather) أحد أشهر أفلام المافيا في العالم. هذا الشريط يعدّ من أقوى الأشرطة تأثيرا ثقافيا على الجمهور وأيضا على الفنّ السينمائي الذي يتناول الجريمة المنظمة والعصابات التي تحكمها عقيدة الصداقة والوفاء للزعيم.
ورغم ما يقرّه مارلون براندو (فيتو كورليون في الشريط) من أنّه “توجد جريمة بشعة خلف كلّ ثروة عظيمة” في إشارة إلى ثروته الفاحشة المتأتية من التهريب والتهرّب والدعارة وإدارة محلات القمار والتي تتمّ تحت تغطية وحماية سياسية بفضل علاقاته السياسية القوية، فإنّه طوال الشريط لم ينجح في إعطاء الانطباع بأنّه زعيم عصابة، فملامح الممثّل العالمي الطيّبة تحدث ضربا من “التطبيع” بين المتفرّج وزعيم المافيا أو بين المتفرّج والعقلية المافيوزية. ولعلّ أكثر ما يسيطر على المشاهد ويبهره هو حجم المساعدات الاجتماعيّة التي يقدّمها فيتو كورليون (مارلون براندو) لكلّ من يطلب مساعدته. “ماما تيريزا” المافيا، يعيش من أجل المجتمع ويتحوّل إلى “قديس”. غطاء الخيّر الذي يحجب حجم التوحش الذي يميّز صراع عصابة كورليون مع بقيّة عصابات المافيا هناك. الخير الذي يطلبه متفرّج تائه في عالم متوحش فيتماهى مع بطل الشريط المجرم الخيّر والقاتل اللطيف والمتحيّل صاحب الحق، والمذنب الذي لا يعترف ولا يتوب.
عرّاب أمريكا (فيتو كورلين الإيطالي الأصل) تعولم في ظلّ أمركة العالم. ففي كلّ بلد زعيم مافيا عرّاب يرتدي ثوب الخير، ففي سوريا مثلا قرّر أحد أقرباء الرئيس السوري، وهو من أكبر رموز الفساد هناك، ترك أعمال التجارة والتوجّه إلى الأعمال الخيرية (المربحة أكثر) ممّا جعل ناشطين سوريين يلقّبونه في سخرية لاذعة من تحيّله الخيّر بـ”ماما تيريزا”. وفي العالم عصابات مافيا بجنسيات مختلفة، فنجد العصابات الروسية والصينية واليابانية والتركية والافريقية.. وهو انتشار أنتج كما هائلا من الأعمال الفنية التي تصوّر الأعمال الوحشيّة للمافيا وصراعاتهم وتداخل المافيا والسياسة.
في تونس لدينا عرّابنا أيضا. طيّب وودود وبملامح فيتو كوليوني. يحتضن الفقراء ويمسّهم ويجسّهم فيتحوّل على لسان المثقفين والإعلاميين إلى تشافيز وإلى عمر بن الخطّاب، وإلى سيدنا يوسف. وكان قبل ذلك، وخلال سنوات طويلة من غسيل الدّماغ المدروس واللئيم، قد أحدث من خلال قناته تطبيعا عجيبا بين العقلية المافيوزية والتونسي، وبين الفساد والتونسي، وبين التحيّل والتّونسي، بِذرّ رماد الخير على العيون. وهو التطبيع الذي بدأ منذ العهد السابق حين يغطّى نهب البلاد بصندوق التضامن 26/26. ثقافة تصالح عميقة مع الفساد تصمت عن التهرب والتلاعب مقابل الفتات، وتصرخ في قهر لئيم دفاعا عن زعيمه الذي يتحوّل إلى ضحيّة.
في شريط العرّاب، يقول البطل زعيم المافيا: من الخطر أن تكون رجلا صادقا. وها نحن نعاين يوميّا حجم الكذب الذي يرتكب في حقّ الناس في إطار صراع عصابات سياسية مهوسة بالوصول إلى السلطة لحماية ثروتها اللّامشروعة التي بنتها على “جرائم بشعة” بلغة العراب الأمريكي. كذب إعلاميّ مكشوف لا دافع له سوى المحافظة على المصالح وعلى مورد الرزق الإعلامي الذي يدرّ ذهبا ويحول الاعلاميين الى خدم مطيعين.
أما بعض المثقفين والديمقراطيين والحقوقيين فيبدو أنّهم ضحايا شريط العرّاب الأمريكي، وواقعون تحت سحر العرّاب التونسي. فتعاطفهم العجيب مع عرّابنا يؤكّد أن لا مشكلة لديهم مع الفساد ومع الإخلال بالقانون. بكائيات جماعية ومواقف سريالية في ديمقراطية مختطفة من المافيا بالمال، مخترقة من الفساد بالقوّة. ديمقراطيون حوّلوا الديمقراطية إلى غطاء لحجب الفساد، وحقوقيون حوّلوا المنظومة الحقوقية إلى حيلة للتملّص من القانون، ومثقّفون حوّلوا الثقافة إلى نحت لألق المافيوزي. في العالم يوجد كتّاب قاوموا المافيا المسلّحة لعلّ أشهرهم الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو الذي وضع حياته في خطر بعد أن أغضب زعيم المافيا بنشر فضيحة المافيا في نابولي في كتابه كامورا. ولكنه يواصل الكتابة وهو يقول: إن لدي جمهوراً يحمي حريتي، رغم كل القيود.
في فيلم العرّاب يثأر ابن البطل (آل باتشينو في دور مايكل كورليوني) في مشهد مروّع ودموي من العائلات المافيوزية الأخرى التي اغتالت أخاه. صراعات لا تنتهي أشبه بقبليّة جديدة تقوم على عصبيّة جديدة. عصبية لا تخلو منها أيضا قوى المال والأعمال والسياسة هنا التي تتحالف وتتصارع وفق مصالحها.
عرّاب تونس لن يعترف، ولن يتوب، والأمل في الشباب اليقظ المتحرّر من التبعيّة لأيّ قوّة مشبوهة. هؤلاء قادرون على “الثأر” لديمقراطيتنا المغتالة، بقوّة القانون، وقوّة الإرادة والمبدأ.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock