تدوينات تونسية

لعبة العدو الخفي وانتصار الدستور التونسي

ليلى الهيشري

تحدثت يوم تشييع المرحوم الباجي قايد السبسي عن لعبة العدو الخفي الذي يرى نفسه قويا عبر الافتراضي، عبر اعلام مرئي ومسموع ومكتوب، يتفرق بسرعة وينتشر كما نار الهشيم فيصيب الناس بالذعر وقد يصدقه البعض ولكن لا تنطلي اللعبة الا على من يتناول الشأن العام بسطحية.
غير الصبر لن تجد دواء، نعم تلك طبيعة الوضع السياسي في تونس ولك في يوم تشييع الجنازة مثالا يحتذى به اقر به الخصوم قبل الاصدقاء، فأما مذيع مصر المشهور فقد أبن بكل احترام زعيم دولة الديمقراطية التي ترسخت وانبنت على قواعد لم تتأثر لا بتهديد خارجي ولا تحد داخلي، كما اعترفت بذلك كل الدول العربية الاخرى اذ اعلنت الحداد على الرئيس الديمقراطي الوحيد الذي عجزت لبنان عن تنصيبه لعقود بل اصبحت تضطر بين الاونة والاخرى الى اعتماد توافق مبني على جلسات لا تمت للديمقراطية بصلة رغم ان دستورها يقتضي تنصيب رئيس الجمهورية من طرف مجلس النواب كل 6 سنوات، اذ ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي. ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. وتم خرق هذا الشرط في عهد الرئيس بشارة الخوري والرئيس إلياس الهراوي والرئيس إميل لحود حيث تم التمديد لهم لنصف فترة رئاسية بعد تعديل الدستور لوجود توترات عرقية وعقائدية تطفو على السطح بين الفينة والاخرى فتهدد بزوال الدولة وما فيها وكأن العدو الاسرائيلي ليس كافيا لينهيهم عن حالة التشتت والتناحر، فالوضع لم يكن في حقيقته، رغم كل الاتفاقيات واهمها اتفاقية الرياض التي ابرمت بعد الحرب الاهلية، لتجد لبنان نفسها رغم كل المؤهلات التي تدفعها الى وضع ديمقراطي صحي لازالت متمسكة بجلاليب الدول الاقليمية القوية المتموقعة غصبا صلب تجاذبات بين السعودية وايران.
واما الغرب فقد كان مبهورا بالمثال التونسي حيث شكلت صورة عبد الفتاح مورو ذلك الرجل المثقف والمتمسك بتعاليم الاسلام، نقطة عبور فندت كل الاقاويل التي يراد بها باطلا في سبيل اعادة فتح جروح الانقسامات الايديولوجية المبنية على الخيار العقائدي والنمط الاجتماعي، فلم يستطع الا ان يؤدي واجبا والا ان يحفظ عهدا قطعه على صديق له غادر الحياة فخير ان يترجل بضع كيلمترات وراء جثمان الرئيس الراحل احتراما لكلمة منحه اياها شاءت الاقدار ان تسجلها في ثنايا التاريخ المعاصر لتونس لتدحض بها كل سبل الشقاق الذي ينهالون علينا به في الافتراضي ليصدقه البسطاء.
هناك كان الصبر مفتاحا للفرج، اذ انتهت لعبة العدو الخفي بسرعة دون رجعة ولم يبق للمتآمرين الا الوقوف احتراما واجلالا لمصاب لم يحطمنا بقدر ما قوى عزيمتنا وزادنا اصرارا على اعتناق المنهاج الديمقراطي المبني على صندوق الاقتراع.
نزل الباجي رحمه الله على “عرشه بموجب الانتخاب” وتخلف عن هذه الدنيا وركبها المتقدم في اول ساعات النهار ليخلفه بعد وقت قصير رئيس جديد اجمعت كل مؤسسات الدولة الدستورية على شرعية تنصيبه لفترة اقرها الدستور في نص موثق كان ثمرة جهد واوقات عصيبة عاشتها تونس بين تهديدات ارهابية ودماء واغتيالات سياسية وضغوط خارجية، اجتيزت بنجاح. رأى ذلك الدستور النور في 27 جانفي 2014 ورغم حداثة عهده كان الملجأ الحاضر والمنقذ الاوحد لمصير بلادنا بتاريخ 25 جويلية 2019، حيث اعلن الى العالم انتصاره على كل الظلام الذي احاط بتونس والذي ازداد قتامة قبيل انطلاق الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية في نفس هذه السنة.
اليوم اعلنها العالم باعلامه الرسمي والمسيس، بما فيه من انظمة ديمقراطية وكليانية وما يتفاخرون به من سلط رباعية الابعاد، رضخوا الى واقع جديد تجاوز منطق الدول القوية المسلحة صاحبة الموارد النفطية او القوة الصناعية، ليكشف عن وجه جديد لعالم عربي قادته مسيرة دولة صغيرة طموحة لا تحتاج الى كل تلك المساحات ولا الثروات لتكون دولة استثناء. عبر عنها البير كامو في قولته الشهيرة “quand on ne peut pas être une puissance, on peut être un exemple”.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock