مقالات

حدادُ باسكالين !

بشير العبيدي

#رقصة_اليراع
ما أجمل المُلَحَ التي تحدثُ في حياتنا كلّ يوم ولا نكاد نراها. وها أنذا أصفُ ملحة منها، عشتُ تفاصيلها، وقد كنتُ صحبة أفراد أسرتي متكأً على مطرح حلبيّ الزّينة، تحت دالية لي في منزلي، أستنشق الهواء المسائيّ الصيفيّ العليل الذي كان يهبّ على باريس، وذلك ليلة اللّقاء الكرويّ الشهير الذي جمع بين فريقيْ السنغال والجزائر في نهائيات كأس الأمم الأفريقية.
فبينا أنا أقشّر فاكهة، لمحتُ هامةً تتقدّمُ في ظلام الليل الحالك نحو مجلسنا، فتبيّنتُ، وإذا هي باسكلين، صديقة لابنتي، جاءت تجرّ رجليها جرّا، وقد نكّست رأسها، ثمّ سلّمت على الجميع دون تخصيص بصوت لا يجاوز كمّ قميصها، وارتمتْ بيننا، كالثمل، في أقرب مكان وجدته تحت الدالية… وباسكلين ممشوقة القدّ، طول قامتها يقاس بها الباب، لكنّها نحيفة جدّا، حتّى أنها لو تخفّتْ خلف سُمْك هاتفها سامسونغ لأجزأها !
جلستْ باسكلين صامتة، والحزن ينزّ من عينيها، وكانتْ في سكون على غير عادتها، بادية الحداد، كئيبة الملامح، مرتخية الهيأة، كأنّها فقدت لتوّها أعزّ الأعزّة. لا أدري إن ردّت على سؤالي لها “أين كنت؟”، لكنّها أغلقت هاتفها عن المتصلين، ودلدلتْ رأسها ببن منكبيها، وأسندته بقوة بمرفقها كالزرجين، وتمتمتْ : “لقد خسرنا. وهذا ليس عدلاً. كان لا بدّ أن نربح نحن” !
قالت لها زوجتي، في مسعى لتسليتها : المرّة القادمة تربحون أنتم إن شاء الله يا باسكلين، لا عليك! فما بدر منها حراك. فقالتْ لها ابنتي : أسقيك عصيراً أو أعطيك فاكهة أو تحلية؟ فأقسمتْ اليمين ألاّ تذوقنّه! وعرضتُ عليها أنا أن تتعشى، فأبت بحركة من رأسها دون أن تنظر إليّ.
“لقد خسر فريق السنغال”! وأيّ شيء يمكن أن يعوّض باسكلين لقاء هذه الخسارة العظيمة! فلمّا رأيتها أمعنت في حزنها، قلت: الآن أستفزّها ! وكنتُ متكئاً فجلستُ، ثم قلتُ لها: باسكلين، بحساب الخسارة التي ذكرتِ، أيّ شيء خسرتيه أنت شخصيًّا وكان في يدك قبل المقابلة وافتقدتيه بعدها؟ فما دريتُ على من هجمتُ! فقلّبتْ بياض عينيْها ناحيتي، فبدتْ كعينيْ قطّةٍ سوداء في غطش الليل وقالتْ ساخطة متغضّبة : ألا تفهمون؟ – وهي تخاطبني بضمير الجمع لمكان الاحترام – إنّه أمر عميقٌ، عميقٌ جدّا، لا أخالكم تفهمونه. آنا آسفة أن أقول هذا، ولكن للعمر هنا تأثير أكيد، كيف أشرح لكم؟ تخيّلوا سيّدي لو أن فريق الجزائر خسر، فماذا يكون شعوركم؟!
فقلتُ لها، وأنا أحاول إخفاء انفجار بالضحك يوشك أن ينفلت مني: لا مشكلة يا باسكلين! لو كان فريق الجزائر هو الخاسر لكنتُ الآن فرحاً مع الفرحين لفريق السنغال، ههنا في نفس مكاني هذا تحت الكرمة عينها ! فأذهلها جوابي واستحمقتني، حتى بدت أنها أمام حائط أصمّ، وقالت ساخطة : لكنْ، لكنْ ! سي دي نابورت كوا ! (أيّ لا شيء هذا!)! أظنكم لا تفهمون إحساسي، لا فائدة في النقاش ! أنا آسفة! واستدارت تجاه ابنتي في إشارة للرغبة في إنهاء هذا النقاش الأحمق.
فقلتُ في نفسي: أدقّ المسمار دقّة إضافية، وسألتها : باسكلين، لنترك الهزل جانباً ! ألست فرنسية أنت؟ قالت بلى! قلت : فما جريك خلف فريق في سافانا أفريقيا لا تعرفين بلده حقّ المعرفة، ولا تعرفين لغته ولا تاريخه ولا شربت ماءه ولا أكلت من ثمار ترابه ؟ فصاحت بي : بلى أنا فرنسية، ولكنني من أصل سينغالي، وعليّ واجب نصرة هذا الفريق، نقطة ! فقلتُ لها: ومن فرض عليك هذه الشريعة؟ وأي قانون أجبرك أن تفعلي هذا؟! قالت : هكذا! لا تحاولوا أن تفهموا ! وأظنكم لن تفهموا على أيّة حال ! فقلت في نفسي: أدق المسمار أكثر. وصحتُ بها مظهراً التغضّب: باسكلين، ثمّ بعدُ، ههنا أمر آخر أفاتحك فيه، أنت فتاة، فما شغفك بكرة جلدية تتلاطم بين أقدام الذكور، أما وجدت فريقا للبنات تناصرينه، وتتركين لعبة كرة القدم للذكور؟ فجنّ جنونها عند سماعها سؤالي، وقالت : تعيبون علينا أشياء ولىّ زمانها، سيّدي، سيّدي، أنا آسفة، لنترك الأمر، سيصيبني الهبل إن واصلت هذا النقاش…
ثم لاطفتها قائلا: حسنا ! هل من شيء نفعله يخفف عنك حزنك، عدا ممازحتك؟! فضحكت نصف ضحكة، ورأيت أسنانها وقت بدت في بياض عينيها، ثم تفقّدتْ عِقْصتها، وأحكمت ربط شعرها المفلفل، وضغطتْ على زرّ هاتفها بأصابعها النحيفة الطويلة التي تشبه قوائم الجرادة، وفتحت رسائلها النصية، وطفقت ترد على عشرات من المتصلين، بين فرح لفريق الجزائر ومواس لها على خسارة فريق السنغال! وما هي إلا دقائق معدودة حتى استعادت باسكلين عافيتها، وقامت نشطة، ثمّ اتجهت صوب غرفة ابنتي بعد أن تزوّدت بشيء من المطبخ في طريقها، ثم دخلت في جدال آخر مع أترابها، وذابت وسط القهقهات والآهات والصياح والنواح، غير آبهة بأحد…
وليت باسكلين أجابتني لكي أعرف رأيها في السؤال الأخير حول شغف البنات بكرة القدم، ولو كان على وجه المزاح. وذلك أنني طرحت – مرّة – ذات السؤال على امرأة تفهم في الأمور، هي زميلتي مارغريت، تلك التي رويتُ خبرها في الجزء الأول من كتابي “خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق”، فربّطتْ على كتفي، وتحكّكتْ بي، وهي ملمسيّة لا تردّ يدها أين وقعتْ، وقالت لي: يا عجوزي، أنا أخبرك بخبر النساء اللائي يظهرن شغفاً بكرة القدم مع الرجال وأنا إحداهنّ. كلّ ما يعنينا –نحن معشر النساء – من كرة الرجال هو أن نشاهد هؤلاء الشبان بقاماتهم السامقة وهم في لياقة بدنية رائعة، أفخاذهم مشحوطة وصدورهم منحوتة كأنّهم آلهة الإغريق، فنعجب بأجسادهم وحركيتهم ونشاطهم ونستمتع، ولا يهمنا من يربح بعد ذلك، وما بقي من قصص دعم هذا الفريق أو ذاك، فجعجعةٌ لإخفاء صوت ضرطة… أم تراكم تريدوننا أن نعجب بأمثالكم من الممتلئين بالشحوم؟ هه؟ وطبطبتْ –الملعونة- على بطني، وتركتني وانصرفتْ وهي تقهقهُ…
ولله في خلقه شؤون.
(ينشرُ هذا النصّ الأدبي قريبا في الجزء الثاني من كتاب “خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق”.
✍🏽 #بشير_العبيدي | ذو القعدة 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا|

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock