مقالات

"أين طريق الخلاص يا أستاذ ؟"

بشير العبيدي

#رقصة_اليراع
حين يأتيك سؤال يقولُ مَتْنُه: (“أين طريق الخلاص يا أستاذ؟”)، كن واثقاً، أيها القارئ الفاضل، أنه سؤال من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تطرح في هذا الوجود !
أرأيتَ، أيها القارئ الحبيب، لو صادفك أحدُ من انقطعت بهم السّبل في مدينة مترامية تشبه مجرّة درب التبانة، فسألك لاهثاً مستغيثاً: أين المخرج من متاهتي، بالله عليك؟! فهل تراك تزيد في محنته بتوجيهه نحو وجهة لستَ على يقين أنها الوجهة التي تنهي عذابه وتوصله إلى مقصده؟
إن كانت فيك، أيها القارئ، ذرّة من إنسانية، ستحرص أن تنصحه نصيحة خالصة توصله إلى مبتغاه، وربما، إن كان قلبك بحر طافح بالحبّ والجمال، تأخذ بيده فتوصله إلى منتهى مسيرته. فكيفَ إذا كنتَ، أيها القارئ، غير واثقٍ من معرفة مخرج المتاهة، وغير آمن من إيقاع هذا الملهوف المسكين في الخطأ الذي يزيد على محنته صاعاً ويطيل في مأساته باعاً؟!
إنّني أزعم الْيَوْم -من دون ادعاء واهم ولا تورّم منتفج ولا رياء ناقص ولا تعالم فارغ، أنّ ثلاثة أشياء علّمتني مواضع الخروج من المتاهة التي نتخبط فيها- نحن العرب والمسلمون – في زماننا: الحياة والمأساة والحلم!
ولذلك سأجيب السّائل عن مسالك الخلاص، مع مراعاة واجب التبسيط والتسهيل، وفِي نفسي اطمئنان تامّ الأركان أن السّالك سيصل إلى مبتغاه، شريطة أن يسلكه في صحبة غفيرة وقصة مشتركة كبرى. ولكي نعرف المخرج من الورطة، ينبغي معرفة الأسباب التي أوقعتنا فيها وفي نتائجها.
ما الذي أوصلنا لما نحن فيه من هوان؟
لقد نظرت بعمق في الذي أوصلنا -نحن معشر العرب والمسلمين- لما نحن فيه من رخص، واكتشفت أنه ليس بمفعول ضعف إيمان بالله ولا بسبب تفريطنا الدينيّ ولا بتأثير كثرة الاختلاف ولا بغياب نقص الموارد ولا من قلّة الشّجاعة والبسالة ولا بتأثير المؤامرات، ولا بسبب رفضنا للنظم العلمانية الحديثة. فكلّ هذه الأسباب وغيرها مما لا يتسع المقام لذكرها لم تؤثر على ما نحن فيه إلا بشكل محدود قابل للسيطرة. بل السبب الجوهريّ الذي أوصلنا لما نحن فيه هو وهن الإيمان بأنفسنا كأمّة ذات رسالة إنسانية. نحن نكفر بأنفسنا ولذلك نرى كلّ شيء في أوطاننا ومجتمعاتنا قبحاً. وأولادنا لا همّ يحرّكهم إلا ترك الأوطان والهجرة بعيدا عن الأهل والخلان والغروب عن كل شيء يذكّرهم بأنفسهم ككيان ثقافي حضاريّ. وفِي سعيهم للإصلاح، رأى مصلحون منذ أكثر من قرن أسبابا جزئية لما نحن فيه، فجرّبوا الحلول الجزئية فما أدّت إلا لحدوث تغييرات جزئية غير مؤثرة على المحصلة النهائية، ولهذا السبب، حاولت أحزاب وأنظمة إجراء إصلاحات استثنت أهم عنصرين، فلم تلامس لبّ الوعي الجماعي التشاركي ولا هي أصلحت منبع الإحساس بالفشل، فأخفقت.
متى بدأ انهيار المجتمعات العربية الإسلامية؟
خمس نكبات كبرى ألقت بظلالها على مجتمعات العرب والمسلمين، فتكوّمت نتائجها – رويداً رويداً كأكوام الرّمل المتحرّك- وأفضت إلى واقع التشرذم والانقسام الذي نحن فيه اليوم.
هذه النكبات هي بالتوالي : نكبة سقوط الحضارة العربية الإسلامية التي كانت حاضرتها بغداد (656 هجري/ 1258 ميلادي)، ثم سقوط فلسطين والشام في أيدي الصليبيين في نكبة الحروب الصليبية ( 489 إلى 690 هجري / 1096 إلى 1291 ميلادي)، وسقوط حضارة الأندلس العربية الإسلامية (897 هجري/1492 ميلادي)، وفي العصر،/ رغم جهود الدولة العثمانية الحثيثة، فلم يمنع ذلك سقوط العالم الإسلامي لقمة سائغة في عهد الاستعمار الغربي البغيض (من 1213 إلى 1382 هجري / 1798 على 1962 ميلادي)، والذي انتهى بتأسيس الكيان الصهيوني وسقوط القدس سنة 1387 هجري/1967 ميلادي)، وفرض دويلات موالية للاستعمار يحكمها مستبدون طغاة ومجرمون متوحّشون، يستندون على شعوب مشوّهة الوعي مدموغة الإرادة معاقة التفكير.
ما أسباب الانهيار في المجتمعات العربية الإسلامية؟
إن هذه الكوارث، وغيرها كثير مما هو مفصّل في كتب التّاريخ، ساهمت في تكريس شرور ثلاثة نشبت مخالبها في لحوم المجتمعات العربية الإسلامية. هذه الشرور القاتلة هي الاستبداد والجهل وتوقف الاجتهاد، بفعل استباحة العقل ونشر الوعي الخرافي بين الناس. هذا الثالوث الشرّير يتغذى من بعضه البعض، وشكّل بيئة محليّة مغلقة، فالاستبداد يستثمر في الجهل، والجهل ينتج عبادة المستبدين الطغاة الفاسدين الموالين للأعداء، وتوقف الاجتهاد وشيوع التفكير القديم الذي لم يعد يستوعب متغيرات الزمان والمكان والحال يسوّغ إعادة إنتاج الجهل المركّب، الذي هو غير الجهل البسيط. والجهل المركّب هو الجهل الصّادر عن المتعالمين من أهل الحفظ دون وعي بتحولات الزمان، فيصفون السمّ القاتل بدل الدواء، ويرشدون الناس إلى الطرق المسدودة والمتاهات المفنية بدل الأبواب القريبة للخروج من الأزمات، ويؤدلجون الحلول بفرض الأفكار التي لا ينبني عليها عمل نافع، ويرفعون الشعارات الجوفاء التي لم يحصد الناس من رفعها سوى مزيد الجري وراء السراب. فكانت النتيجة الكلية ضياع قدرة المجتمعات العربية الإسلامية على التحكم في مصيرها عبر التحكم في المعرفة والمسك بناصية العلم والسبق إلى صناعة الوسائل وتأمين الاستقلال في الغذاء والعلم والتقانة. والنتيجة : أوطان تسبح فوق بحار من النفط والغاز والثروات، تنهبها القوى الدولية الذكية، تبيع بثمنها أسلحة للحروب الأهلية بين العرب والمسلمين، ويقع العرب والمسلمون في حبائل تلك الحروب الغبية الحمقاء ويكررون ذات الأخطاء، ويرفضون الإقدام على تصحيح العقول وتجاوز العجز الجماعي، لأنهم لا إرادة حرّة لهم، أو لا عقل يهديهم إلى مفاتيح الحل.
أين طريق الخلاص من هذه المأساة الإنسانية؟
إن بقية هذا القرن الهجري الخامس عشر، أي خلال الخمسين سنة القادمة، لا مناص – من وجهة نظري – أن نتجه صوب المخارج الحلول العامة تالية الذكر :
أولا: استئصال الاستبداد من الأنظمة السياسية السائدة في الأوطان العربية والمسلمة، خصوصا الأنظمة العسكرية منها، وتـأسيس أنظمة قائمة على حرية الشعوب في الاختيار. فلا أمل إطلاقا في حرية أو نهضة أو تنمية أو بناء أو مناعة أو استقلال في ظل أنظمة استبدادية مقيتة وطائفية متعفنة غير قابلة للتدوير.
ثانيا: إجراء إصلاح في العمق يطال جوهر الثقافة الجماعية ويراجع أسس العقد المشترك بين الناس، ومن مستلزمات ذلك:

  • إصلاح التعليم في اتجاه بناء الإنسان الكوني الجديد المتجذر في قيمه الروحية المحلية وانتماءاته المتعددة والمتداخلة، وتأسيس الاعتراف بجميع أنماط التنوع في المجتمع مقابل القبول بالعيش المشترك، وإعادة تأهيل جميع المعلمين والأساتذة على امتلاك ناصية العلم والمعرفة والتقانة، وتفعيل حركة الترجمة من لغات العالم المنتجة للمعرفة إلى لغات العرب والمسلمين، ونقل العلوم والمعارف بشكل مكثف.
  • إصلاح المنظومة الإعلامية في العمق في اتجاه القضاء على التتفيه والترذيل والتقاتل الداخلي ونشر البغضاء والفساد الفكري، والتمكين للغة العربية الفصحى القياسية المشتركة أن تكون اللغة الجامعة للناطقين بالعربية، مع احترام جميع اللغات المحلية المجاورة، وكذلك تنمية اللغات السائدة في المجتمعات المسلمية مثل التركية الفارسية والأوردية والأندونيسية وغيرها.
  • تأسيس الأمن الغذائي، والأمن التقاني، والأمن الثقافي، والأمن الروحي، والأمن السياسي والأمن الاقتصادي، وجعل الجميع، أفرادا وجماعات، ينخرطون في أمنهم المشترك.
  • تنمية الإبداع الفردي والجماعي عن طريق فتح المجال لجميع أنواع المبادرات.
  • الحث على التخلي عن التحزّب المفرط والقبلية الضيقة والانتماءات المذهبية الموظفة سياسيا، لفائدة الاعتراف بالتنوع والقبول بالعيش المشترك.
  • الالتحام بجميع القوى الكونية للتعاون من أجل الحفاظ على الأرض من الفساد والتدمير وسوء الاستغلال، وتأسيس حق الأجيال القادمة في أرض خالية من السموم والمنتجات القاتلة ووسائل التدمير الشامل.

ثالثا: إنهاء الانشطارات الخطيرة داخل المجتمعات العربية والمسلمية، وتأسيس جمع الكلمة وجمع الجهود.
وذلك باتخاذ إجراءات محددة من أجل:

  • رأب الصدوع ذات الجذور الفكرية والفلسفية والمذهبية والعرقية والقومية والثقافية،
  • تأسيس القواسم المشتركة بين مجتمعات المسلمين، وتبني إصلاح التفكير والتدبير، بما يقوي لحمة الأمة ويجمعها حول القواسم الكبرى المشتركة.
  • إيقاف توظيف الدين والمتاجرة به من طرف الدول والمنظمات السياسية والشخصيات المؤثرة، وجعل القيم الروحية الإسلامية عامل أمان روحي ومناعة في حياة المسلمين.
  • تأسيس الأسواق الاقتصادية المشتركة في المناطق العربية والإسلامية الكبرى: المغرب الكبير، افريقيا، الشرق الأوسط، الشام والعراق، الجزيرة العربية، العالم التركي، إيران وشرق آسيا، جنوب آسيا،
  • تحريض المجتمعات العربية والمسلمة على اختيار الاندماج الطوعي والخروج من ربقة حدود سايكس بيكو التي كرّست الانقسام والضعف والانشطار.

هذه -من وجهة نظري- محاور العمل الثلاثة الكبرى لنصف القرن القادم داخل المجتمعات العربية والمسلمة، فمن وجد نفسه يعمل في نقطة من هذه النقاط، فهو صاحب رؤية وروّية وسينتهي به المطاف إلى طريق الخلاص بحول الله.
والله غالب على أمره.
(*) من النصوص التي ستنشر في الجزء الثاني من كتاب : خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق. فلا تبخلوا عليّ بإثرائها بمداخلاتكم المركزة.
✍🏽 #بشير_العبيدي | ذو القعدة 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock