مقالات

مـعـالـم الـفـتـنـة الإقتصاديّة

سامي بللّعج

مضى زمن لا بأس به على المؤتمر الإقتصادي العالمي للإستثمار والّذي احتضنته بلادنا المتلمّسة لخطواتها الرّضيعيّة الأولى على درب الحرّيّة والدّيمقراطيّة.. إلاّ أنّ الوضع الإقتصادي العامّ وتهلهل القدرة الشّرائيّة ينذران بتفاقم مريع للوضع في وطننا !
لكن وسط هذه الصّورة الشّديدة القتامة تكمن فسحة أمل تلطّف من هذه الأجواء المشحونة، إنّها بلا ريب عدم سقطتنا في حفرة الإقتتال الدّاخلي أو انحدارنا إلى معرّة الإحتكام إلى لغة السّلاح الهمجيّة كبديل عن التّجاذبات السّياسيّة والإستقطابات الحزبيّة.
وبلغة أوضح، فإنّ ما نحن فيه وعليه هو بالرّغم من كلّ البلاء الإقتصادي أرحم بألف مرّة ممّا يحصل في اليمن أو في سوريّة أو حتّى في مصر.. وليست ليبيا ببعيدة.
فأهون بكثير أن ندفع ثمن تلمّس كرامتنا من بعض أريحيّتنا الإقتصاديّة.. من أن ندفع ثمنا لذلك من أرواح شعبنا أو هويّتنا الّتي هي غذاء هذه الأرواح.
وشخصيّا، فإنّي واثق من أنّ القليل من الصّبر كفيل بإعادة الأمور إلى نصابها ولا يجب على أيّ منّا تناسي حقيقة أنّ هذه الفتنة ذات الحراب الإقتصاديّة إنّما هي تكملة من ذات المصادر الّتي كانت تراهن على انحدار بلادنا إلى همجيّة لغة السّلاح.
وغير خاف أنّ جهات دوليّة بعينها، بصدد العضّ على أناملها تغيّظا من نجاح التّجربة التّونسيّة كأنموذج فريد ومتفرّد في النّجاح الباهر في الخروج عن طاعة قطعان الخنوع الشّعبويّ والممتدّة من الخليج إلى المحيط. ولا اختلاف في هذا الموقف المشبع تغيّظا من تونس، سواءا من قبل الملكيّات المعلومة في عالمنا العربي أو تلكم الجملوكيّات المتخفّية إمّا وراء سطوة العسكر أو خلف متاريس الإقتراعات الملامسة لنسبة المائة في المائة !
إنّ تمكّن تونس من المرور بسلام خلال هذا الدّرب المملوء بالألغام ونجاحها في العبور منه بأخفّ الأضرار الممكنة لــهو معجزة لم يقدر على استيعابها كلّ من يتميّز غيظا من حقيقة كونها كانت القاطرة لبقيّة أوطان العروبة في محاولات إحلال ربيع الإنسان العربي.
ولا زالت نفس هذه الجهات تـتـأفّـف من كوننا الشّرارة الأولى الّتي تسبّبت في موجات ارتداديّة على كامل رقعة الدّول العربيّة بشرقيّها وغربيّها، وقد ازداد قلقها منّا، خصوصا بعد استمساكنا بالعروة الوثقى للسّلم الإجتماعي والتفافنا حول النّسيج المتجانس لاختلافاتنا الفكريّة أو الأيديولوجيّة.
فسقطت كلّ رهانات هذه الجهات الباغضة على أرض ثوابتنا الوطنيّة برغم تصاغر رقعة بلادنا التّونسيّة، وقد كان أوكد وثابت لدينا وعلى اختلاف انتماءاتنا هو وحدة رقعتنا التّرابيّة الصّغيرة بالمساحة لكنّها الهائلة جدّا من حيث النّضج الفكريّ والحصانة الحضاريّة.
لذلك بائت كلّ محاولات تفريخ الفتن في أرضنا وخلال فسيفساء شعبنا بالفشل، وكم جنّ جنون هؤلاء حين اصطدامهم بصخرة وحدتنا الوطنيّة الصمّاء فـباءوا بفشل ذريع في زرع فتنة بين ظهرانينا كتلك الآكلة للأخضر واليابس في سوريّة واليمن وليبيا.
إلاّ أنّ فشلهم الذّريع هذا لم يجعلهم يقرّون بحقيقة استعصاء وعينا الجماعيّ التّونسيّ، عليهم.. بل على العكس فلقد هيّأ لهم مستوى آخر في اعتلان الحقد وإشهار نيّة الإصرار على الإنتقام من تجربتنا الرّبيعيّة النّاجية برغم كلّ المطبّات وعلى الرّغم من كلّ العراقيل منهم.
ولا يفوتنا أن ننوّه إلى أنّهم قد هالهم ما رأوه منّا من مروق كالسّهم من فتنة الإرهاب البغيض والّتي أرادت أطرافا معلومة بعينها وبالتّواطؤ مع قوى عظمى أن تكون أمّ الشّرارات المؤدّية إلى اقتتال داخليّ بين التّونسيّين.. وحين سقط في أيديهم من انطلاء مثل هذه المحاولات الجبانة من قبلهم على مستوى ذكائنا الجماعيّ فإنّهم آيسو من شرارة زعزعة الأمن والأمان في بلد قد حقّق فيه كرامته كلّ إنسان تقريبا، واستعاضو عن هذا اليأس المروّج في وعاء “داعشيّ” سخيف، بـفكرة الهلهلة الإقتصاديّة والنّيل من منعتنا السّياديّة من خلال المساس بأمننا الماليّ، ولا نستطيع الزّعم بفشلهم في هذا الأسلوب الأخير كما قد كانت خيباتهم مع ثوابت الحرّيّات والكرامة والأمن والسّيادة ولو أنّ هذه الأخيرة تبقى نسبيّة بعض الشّيء في ظلّ تناثر خيراتنا الطّبيعيّة بين هذا وذاك ممّن لهم ظلع في الإساءة إلى نجاح أنموذجنا الرّبيعيّ والّذي يبقى يتيما على امتداد خارطة عالمنا العربيّ الكبير.
لقد نجحت هذه الجهات النّاقمة علينا انفلاتنا من كابوس الإقتتال الدّاخليّ، في تمرير طعم الإقتراض المذلّ من صندوق النّقد الدّوليّ والّذي لم يسبق أن اذعنا له إلاّ في مناسبتين فقط، كانت أولاها في أوائل حكم “بورقيبة” وثانيها في أواخر حكمه كذلك !
وبالإضافة إلى هذه المعرّة الآنفة التّوضيح، فإنّ اجتماع إرادة لوبيّات اقتصاديّة معروفة خلال تضاريس تجمّعاتنا الماليّة كان لها دور فعّال في إذكاء نار تبعيّتنا الإقتصاديّة لعظماء الدّول الأجنبيّة، وقد تأتّى لها ذلك إمّا بتحويلاتها الضّخمة لرساميلها إلى بنوك العالم المهتمّ باستعمارنا اقتصاديّا ! أو بالتهرّب المافيوزيّ من دفع ما عليها من إتاوات للخزينة العامّة لبلادنا، أو بتبييض أقساط مروّعة من رساميلها في أنشطة موازية لما تستورده بلادنا التّونسيّة بالّذي يدمي العقل من عملة صعبة حيويّة !
المحصلة أنّ هذه اللّوبيّات المافيوزيّة التّونسيّة قد مثّلت اليد الطّولى لهذه الجهات الأجنبيّة، لتكريس واقع الفتنة الإقتصاديّة وكبديل حيويّ عن فتنة الإقتتال والدّم المسفوك كما هو الحال في باقي الدّول العربيّة السّاقطة قسرا من رتل الرّبيع العربي المرفوض من جلّ عتاة العالم !
لكن بقي أن نستغرب ونتسائل عن سبب تعاون هذه اللّوبيّات الماليّة والفاحشة الثّراء والّتي هي منّا وإلينا في نهاية الأمر، مع مثل هذه المخطّطات الرّامية إلى الإساءة لبلادنا ! ؟
وبديهيّ أنّ كبريات الشّركات البتروليّة العالميّة تهلّل وتكبّر لمثل هذه الفتنة الإقتصاديّة حتّى يكون استحقاق الخبز أولى من كماليّات المطالبة بريع الثّروات الباطنيّة الطّبيعيّة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock