مقالات

ما هو سبب خلاف المسلمين حول هلال رمضان ؟

بشير العبيدي

#أقولها_وأمضي
سألني شاب أوروبيّ، يدين بالإسلام، هذا السؤال : ما هو سبب خلاف المسلمين حول هلال رمضان ؟
انطلاقا من هذا السؤال، أحرّر إجابة بإسهاب، لعلّها تفيد من يخطر بباله مثل هذا السؤال، راجيا من الله التوفيق والسداد.
إن الخلافات المعقّدة في مجتمعات البشر، غالبا ما تكون أسبابها متعدّدة ومتداخلة، وفيها الظاهر وفيها الخفيّ. وطالما لم تتضح صورة الخلاف بدقة في أذهان النّاس، وطالما لم يقف للخلاف الخلّص من أبناء الأمة لتفكيكه وتفريعه، فإن الحلول تظلّ بعيدة المنال. وسأحاول ما أمكن القيام بالتفكيك والتفريع لهذه المشكلة، تقريبا للفهم الشامل، وتهيئة لاستبصار الحلول الممكنة.
نقطة الانطلاق هي أن الأعياد والمناسبات جعلت من أجل فرح الناس وبهجتهم واشتراكم. ولكي يفرحوا ويبهجوا ويشتركوا، ينبغي أن يتحدوا في المناسبات، ولا يختلفوا فيها، خصوصا في البلد الواحد والمدينة الواحدة. ثم أن المسلمين عمّ وجودهم في كامل الكرة الأرضية ولله الحمد، فإذا ولد الهلال في منطقة المسلم الأمريكي أو المسلم الصيني أو المسلم العربي، أو المسلم الأفريقي، وجب أن يتحد معه البقية، إقامة للشعيرة والشريعة.
ألا وإن جملة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة تقف خلف هذا الخلاف المتعلق بتحديد بدايات ونهايات شهر رمضان، وهو الخلاف الذي يتكرّر عند المسلمين منذ عشرات السنين. ومنذ البداية، أنوّه إلى أن الخلاف ليس فلكيا بالمرّة، ولا يوجد بين علماء الفلك سوى اختلافات طفيفة جدا لا تأثير لها على الحساب. لكن المشكلة ثقافية حضارية وسياسية. وفيما يلي ذكره، أسرد روافد المشكلة القريب منها والبعيد، أرتبها تفاضليا بحسب أهمية السبب ووزنه في المشكلة برمّتها، ولا أكتفي بمجرّد ذكر الخلاف الفقهي أو الفلكي، فذلك هو مجرّد الأمر الظاهر من مشكلة أعمق بكثير :
السبب الأول : فقدان المرجعية عند مسلمي زماننا.
غياب حاكم مرجعي للمسلمين ساهم بشكل كبير في هذا الواقع المحزن. فبعد انهيار الدولة العثمانية قبل قرن من الزمان، والتي كانت تمثل – رمزيا على أقلّ تقدير- وحدة المسلمين، تم إنشاء كيانات على أشلاء الدولة العثمانية المنهارة، وأغلب تلك الكيانات –العربية خاصة – كانت بإيعاز مباشر من الاستعمار الأجنبي الذي قصد تفتيت البلدان لكي لا تقوم لها قائمة تقلق المستعمرين في يوم من الأيام. فكان لهم ما أرادوا.
اليوم، يوجد أكثر من ست وخمسين حكومة في العالم لبلاد المسلمين، ولم يصل المسلمون في تاريخهم إلى مثل هذا العدد المخيف من الأنظمة السياسية التي هي في حقيقتها أقرب لشكل العصابات الحاكمة المدعومة من طرف القوى العالمية المتكالبة على نهب ثروات المسلمين ومقدراتهم من نفط وغاز وغير ذلك. وكنتيجة لفقدان المرجعية في المجتمعات المسلمة، توجد اليوم أنظمة متصارعة على تزعّم القيادة في المجتمعات المسلمة، خصوصا نظام السعودية ومن في فلكها، ونظام إيران ومن في فلكها، والنظام المصري، والدولة التركية. ولقد أفردتُ تركية باسم الدولة، لأنها البلد الوحيد الذي يمكن أن يوصف بوصف الدولة من حيث كونها مؤسسات منتخبة تعبر عن اختيار المواطنين الحر الشفاف. أما السعودية وإيران، فهما نظامان ثيوقراطيان، ويمثلان وجهين لعملة واحدة، ميزتهما الاتجار الأيديولوجي بالدين، لأجل مآرب سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا بالقيم ولا بمصالح الناس. أما مصر، فقد وقع مسخها بحكومة جائرة منافقة عميلة، ورئيس انقلابي مجرم قاتل، بعد القضاء على أول انتخابات حرة أفضت لانتخاب الرئيس محمد مرسي. أما تركية، فقد لملمت شأنها وتحاول النهوض، وسط نهش منهجي تتعرض له من جميع القوى الدولية والإقليمية، مخافة أن تستعيد تركيا مجدها الغابر.
هذه الأنظمة المتصارعة على الزعامة، سببت تعميق الجراح في جسم الأمة، وكنتيجة لصراعها المرير، تتدخل غالبا في تحديد بداية ونهاية شهر الصيام، لكي تبدو في عيون المسلمين أنها صاحبة القيادة الدينية والسياسية، وهو نفاق سياسي بيّن لا علاقة له بالدين ولا بسياسة الملك على أصوله. وقد يصل الخلاف بين هذه الأنظمة الدائرة في فلك البلدان الاستعمارية إلى حدّ ضبط ثلاثة أيام مختلفة لما تزعم أنه “رؤية الهلال”.
السبب الثاني : التحجّر الفقهي والتخلّف العلمي.
أحترم جميع المسلمين القائلين بالرؤية، وأعتبر إيمانهم بذلك من باب الحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإقامة سنّته. وههنا، لا أتكلم عن الفقهاء القدامى، حاشا لله، لأن هؤلاء الكبار من أهل الرسوخ في العلم لو كانوا في عصرنا لما حصل خلاف بينهم في ضرورة اتباع الحساب الفلكي الذي تبلغ دقته الأعشار من الثواني، لكنن عددا من المؤسسات الدينية التقليدية لاتزال في أيامنا هذه محافظة على تفسيرات دينية تجاوزها الزمن وفاتها، رغم براعة المسلمين الأوائل في علم الفلك والرياضيات والطب والعلوم التجريبية بأنواعها. وهذا الحرص خوفا من أن يمتد الأمر إلى أمور أخرى فيأتي عليها التغيير والتبديل، وما هو كذلك. فلقد رفض كثيرون تحرير العبيد، وانتهى الأمر برضوخ الجميع لحكم الزمن.
ومن بين التحجّر الفقهي أذكر، مع الاحتفاظ بكامل الاحترام لمن يخالفني الرأي : الزعم بوجوب الرؤية بالعين المجرّدة أو بآلة ضرورية لبدء الصيام وإنهائه، رغم أن مواقيت الصلاة ومواقيت كل شيء تخضع للحساب الرياضي ولم تعد محلّ نزاع كبير. وهذه الرؤية جعلوها حينا موحدّة لجميع البلدان، وجعلوها حينا خاضعة لنظرية قديمة تقول ب”تعدد المطالع”، ونتيجة النظرية واحدة : تقسيم المسلمين وتقزيمهم وجعلهم أضحوكة في عيون العالم الذي يشاهد خلافات تجاوزها الزمن وفات عنها العهد.
بل أكثر من ذلك، بعض المتصدرين للفتوى في هذا الأمر لا يؤمنون بأشياء صارت من البديهيات التي لا يناقشها إلا الأحمق، مثل دوران الأرض حول نفسها، فقد أفتى كبار المفتين مثل ابن باز بأنه لا يؤمن بدوران الأرض ولا بكرويتها، وهي فضيحة علمية للمسلمين بكل المقاييس. ومن لم يذهب هذا المذهب المخجل، فقد ألزم غيره بالرؤية البصرية أو ما في حكمها بآلة، ومما تسبب فيه هذا الرأي : تفريق المسلمين، إذ أن إمكانية الرؤية مستحيلة لجميع البلدان في الوقت نفسه، فحتى على فرض إيماننا بإمكانية الرؤية المزعومة، لن يتحد الناس، لأن بلدا يمكن فيه الرؤية وبلدا لا يمكن، سواء بآلة أم بغيرها، وحتى البلد الذي يمكن فيه الرؤية قد لا يرصد الهلال عيانا أو بآلة إلا وفق شروط في الأحوال الجوية. وعلى العموم، القول بإمكانية الرؤية سبب خلافا لا ينتهي عند المسلمين، وهذا الخلاف لا محل له من الإعراب، لأن الإصرار على إمكانية الرؤية يقسّم المسلمين ويفرّقهم، من أجل الزعم باحترام أمر نبويّ هو مجرّد تأويل، بينما جمع كلمة الناس أولى وأوثق وأصح في الموقف، لأن الشريعة نصّت على أن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، فكيف تنتفع الأمة بأمر الرؤية مقابل أن تتمزّق فرقا وتختلف على أمر عبادتها وتكون أضحوكة للأعداء في زمن استطاع فيه الإنسان أن يرسل المسبار إلى الفضاء الخارجي، ويحط في كوكب خارج المجموعة الشمسية، ولا يكون مقدار الخطأ في الحساب إلا كما يصيب الرامي الرمش بدل العين؟
السبب الثالث : التعصّب الفكري وضعف الوعي عند الناس :
وذلك أن المجتمعات تتعصب للآراء ولا تعرف الحق إلا بالرجال، بينما الأصل معرفة الحق تهدي لمعرفة أهله. والحق الذي لا يخالف فيه إلا صاحب عناد، هو أن تدخّل السياسة في أمر عباديّ صرف أفضى إلى مفسدة كبرى. كما أنّ حجب التقدّم العلمي الهائل الذي حصل والإصرار على تفسيرات دينية تجاوزها الزمن مما يؤبّد مثل هذه الخلافات التي لا محلّ لها من الإعراب في زماننا.
وفي هذا الصدد أريد أن أوجّه تحية إلى المجلس الأوروبي للإفتاء الذي أصرّ على السير في اتجاه الحساب الفلكي الدقيق، واعتقادي أن هذا الرأي سيعمّ به الوعي في المستقبل، لأنه مبني على علم صحيح دقيق موثوق، ولأنه لا خيار آخر يمكنه جمع الناس على كلمة واحدة.
هذه الأسباب مجتمعة ومتداخلة جعلت المسلمين في قلق وأرق من هذا الخلاف السخيف الذي سيبقى وصمة عار على أمة العلم والمعرفة والتأمل والنظر والقياس والحساب.
ومن الآثار الجانبية الخطيرة لهذا الخلاف المزمن، أذكر المفاسد التالية :

  • تدمير إمكانية استخدام التأريخ الهجري الإسلامي في المنظومة المعلوماتية وإخراج تأريخ المسلمين من التاريخ : لا يمكن اليوم إدخال التأريخ الهجري في أي نظام حاسوبي أبدا بسبب هذا الخلاف المزمن. فحتى يمكن استخدام التاريخ الهجري، ينبغي للمهندسين معرفة مسبقة وآلية لجميع مواليد الهلال القادمة لعشرات بل مئات السنين، دون تغيير. وهذا لا يمكن أن يتم إلا بفرض الحساب الفلكي مرجعا موحدا. ومثل هذا مواقيت السفر والطائرات والمركبات وكل الأجهزة في العالم، لا يمكن أن ندخل فيها إلا نظاما زمنيا محددا وثابتا.
  • القضاء على كل إمكانية للبرمجة المسبقة، وبرمجة الإجازات، وبرمجة الأسفار، وبرمجة لقاء العائلات، وإعداد أماكن الصلاة، وكل الأمور المرتبطة بالمواعيد. حياة المسلمين اليوم أغلبها في التجمعات السكنية الضخمة والمدن الممتدة الأطراف، ولا يمكن ترك الناس في هذا العناء والحرج بسبب انتظار الدقائق الأخيرة لهلال يعرف أهل العلم ميلاده قبل ألوف السنين بالثواني وأعشارها.
  • إلهاء المسلمين في قضايا جزئية وتفاصيل لا طائل من ورائها، في ظل استهداف الحريات، وتثبيت الاستبداد، وتأليه الحكام الظالمين الممسوخين، وامتصاص الثروات الطائلة من بلاد المسلمين المنشغلة بالقضايا التافهة والجزئية.
  • إفقاد الشباب للثقة في أنفسهم وفي ثقافتهم ودينهم وبلدانهم وحكامهم، وتشجيع منحى الغلوّ والتطرف في اتجاه الإلحاد أو في اتجاه التصورات الدينية والفكرية، مما يسبب انتشار وعي مزيّف ومشوّه، يكون خارجا عن سياق التاريخ، وسببا لتأبيد حالة كريهة من التخلف.

أخيرا، أهيب بجميع المسلمين أن يقدروا المصلحة حق قدرها، وأن يطووا هذه الصفحة باستخدام الحساب الفلكي، وهو الحساب نفسه الذي نستخدمه في تحديد مواقيت الصلاة واتجاه الكعبة وتسيير الطائرات والغواصات والمركبات، على الأرض وخارج غلافها…
فلنقبر هذا الخلاف السخيف إلى الأبد.
✍🏽 #بشير_العبيدي | باريس، 29 رمضان 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock