مقالات

أحداث السودان وغزة ومحللو "تشابه الأبقار عند الغروب" (هيجل)

أبو يعرب المرزوقي

أحجمت عن التعليق على أحداث السودان باستثناء تلميح واحد في كلامي على أحداث الجزائر وما يخطط لهما. لكن ما أسمعه من مقارنة بين ما جرى في مصر وما يجري فيه يدفعني إلى إبداء رأي مختلف تماما وهو من طبيعة منهجية وليس متعلقا بالمواقف التي لا أجادل أحدا فيها. ففيه أولا ظلم لثورة مصر وشرعية مرسي الذي صار المحللون يضعون المتطرفين من العلمانيين في السودان في منزلة من يمثل شرعية وقع عليها انقلاب. المقارنة بين الجيشين أنست المحللين الطرفين استحالتها بين الطرفين المقابلين.
لماذا أصف الجماعة -التي لم يسلم لها الجيش الحكم ولم يفتكه منها بعد أن انتخبها الشعب- بكونها جماعة متطرفة لأنها هي التي تشترط تسلم الحكم أربعة سنوات دون انتخابات وباستثناء كل القوى السياسية الاخرى: فبأي حق تطلب مثل هذا الطلب؟ فلكأن الجبهة الشعبية تريد حكم تونس باسم الثورة.
لا شك أن لمحور الثورة المضادة دورا في تخلي الجيش السوداني عن صبره في التعامل مع هذه الأقلية التي تريد الاستفراد بالحكم دون انتخابات لما رفضت تنظيمها بعد ستة اشهر ليسلم الجيش الدولة إلى من يختارهم الشعب مدعية أنها هي الممثل الوحيد للشعب السوداني وتريد الحكم أربع سنوات دون انتخابات رغم محاولة حكيم السودان التوسط للوصول إلى حلول وسطى.
ولست خبيرا في الشأن السوداني لكني أعلم أمرين لا يمكن أن يشكك فيهما أحد:

  1. الصادق المهدي حكيم وحاول التوسط فلم يسمع كلامه.
  2. من عادة السودانيين تجنب القطيعة في أحلك الظروف بين نخبهم السياسية لما عرف عنهم من سماحة وتقديم العلاقات البشرية على العلاقات السياسية. وهما كافيان للفهم.

فهذه الأقلية هي الانقلابية وليس الجيش والعلة هي أنها تعلم أنها لا يمكن أن تصل إلى قيادة السودان بالطرق الديموقراطية. لذلك فهي تستغل بعض الأحكام المسبقة مثل قيس ما جرى في مصر من انقلاب على رئيس منتخب بما يجري في السودان من انقلاب هو عكسه تماما لأنها محاولة أقلية الاستفراد بالحكم بتفاهمات مع الجيش مع استثناء ما عداها من القوى السياسية. وإذن فهي المنقلبة وليس الجيش الذي حمى الثورة إلى حد الآن.
ولا يعنيني أن كانت الثورة المضادة تحرض الجيش للانقلاب على الثورة كلها وليس على هذه الأقلية رد فعل على انقلابها الذي يقوده راكبو الثورة أعني هذه الاقلية التي هي من جنس الجبهة الشعبية في تونس واليسار العلماني في مصر وفي كل بلاد العرب. وبالمناسبة فقد بدأ من هم من جنسهم يهددون الجزائر إذ ادعى بعضهم أن الانتخابات ليست كافية للديموقراطية ويقصد لأنها لا توصلهم هم إلى الحكم.
وليس لأن الثورة المضادة تريد الاستفادة من المأزق فعلينا نحكم على الجيش الذي رفض هذا الاستفراد بكونه خائنا أو تابعا لها. لكن إذا تواصلت الأحكام المسبقة للنخب العربية التي تحلل بالانطلاق من المقارنات السطحية فلا ترى إلا الشبه الشكلي وتغفل عن الفروق الجوهرية: فما يحدث في السودان عكس ما حدث في مصر.
ما يجري في السودان قد يبقى محافظة على ثورة شعبية ضد أقلية تريد تنصيب نفسها ممثلا شرعيا وحيدا للثورة ويمكن أن يتحول إلى انقلاب على الثورة كلها إذا لم يتداركها القوى السياسية الأخرى للوصول إلى حل مع الجيش. وما جرى في مصر انقلاب الجيش ضد شرعية قائمة وليس ضد أقلية راكبة للثورة بتأييد من نفس الأقلية ضد اغلبية الشعب والرئيس المنتخب. ولست أفهم كيف يقارنون ما لا يقبل المقارنة. وخوفي أن يضطروا الجيش الجزائري لنفس السلوك.
وبالمناسبة أريد أن أعرج على موقفي من علاقة حماس بإيران لما فيها من نفس الخلط بين الشكلي والجوهري. فالبعض يلومني على لومي لها. لكن موقفي ليس جديدا وقد أعلمت به قيادات حماس الأعلى في دمشق وفي طهران وفي الدوحة وفي تونس. ذلك أني اعتبر حماس قد حادت عن سياسة الاتفاق الاستراتيجي العميق بين المرحوم مؤسسها والمرحوم عرفات.
وكان موقفي واضحا وأعلمتهم به منذ الانتخابات التي أوصلت حماس إلى الحكم. فلما نجحت فـي الانتخابات نصحتهم بعدم الجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وترك الأخيرة لفتح التي تعترف باسرائيل. فالسطلة التنفيذية مضطرة للتعامل اليومي مع دولة الاحتلال وهم لا يعترفون باسرائيل وهذا رصيد لا بد من المحافظة عليه وإذن فلتبقوا في التشريعية لمنع التجاوزات التي تمس بجوهر القضية رصيدا يستعمل “عند الحاجة” وخاصة لحماية الهوية.
لكنهم أغراهم الحكم. وهو العيب الذي تعاني منه كل الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية. فكل ثورة سارعت إلى الحكم وأدت قيمها الثورية لأن منطق الحكم ينافي منطق الثورة ويحول دون المطاولة. فعندما صارت حماس حاكمة لغزة استحالت وحماية الشروط الدنيا لحياة أهلها فكان الانقسام لصالح إسرائيل. سيرد علي وماذا تقول عن المقاومة؟ وهذا هو خلافي الأساسي. فالمقاومة نوعان:

  1. نوع أول مثل المقاومة التي كانت في كوريا أو في فياتنام وكان راءهما دولتان عظميان تنافسان أمريكا على العالم ويمكن أن تكون هذه المقاومة عمادها السلاح الندي.
  2. ومقاومة ليس للسلاح فيها إلا دور رمزي بسبب غياب السند الذي من هذا الجنس. فتكون في الحالة الثانية من جنس منع الحوز من أن يصبح ملكية وتغليب هزيمة العدو الخلقية بالمطاولة وليس بالندية الحربية بالمناجزة التي لم نرها في أي حرب تحرير في العالم.

وإذن فالاعتقاد أن إيران ستوفر لفلسطين ما وفرته الصين وروسيا لكوريا الشمالية أو لفياتنام دليل سذاجة. ومن ثم ففلسطين ليست بالنسبة إلى ايران إلا ورقة تفاوضية وليست قضية تهمها من أجل ذاتها. تماما كجنوب لبنان واليمن وكل مكان تستعمل فيه إيران من لا يمثلون عندها إلا أدوات وليسوا غايات. فحكمة العقل تستثني الاعتماد عليها إذا كنا لا نريد للقضية أن تصبح ورقة في ملفها مع الغرب.
ولو كنت ممن يغريهم مجاراة الأحكام المسبقة لقلت إن إيران تمكن حماس من المقاومة الندية. لكنها في الحقيقة لا تمكن إلا إسرائيل أكثر من حماس لأن ما يعني إسرائيل أمران:

  1. المحافظة أكثر ما يمكن على الانقسام الفلسطيني.
  2. تيسير دعايتها على أنها مهددة في وجودها بمن تصفهم بعملاء إيران وإرهابييها.

ولما كان هدف إسرائيل ربح الوقت لابتلاع الضفة فإن إطالة الصراع لمصلحتها. والثابت أن المقاومة بهذا المعنى كورقة إيرانية في مفاوضاتها من أجل ضمان بقاء نظامها تعمل لصالح إسرائيل وليس لصالح الحلول التي كان يمكن أن تتحقق لو أن الانقسام لم يكن موجودا والمقاومة استغنت عن سلاح إيران.
وختاما فهذا رأيي لا أخفيه مع علمي بأن الأحكام المسبقة ستعتبر ذلك دليل انهزامية لأن من عادة الحمقى تكرار ما يعتبرونه مبدأ أعين “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. وينسون أن القوة ليست دائما بالسلاح بل بشروط استعماله بالطرق المؤثرة رغم عدم توازن القوى. فلو عملت إسرائيل بهذا المبدأ لما ماطلت ستين سنة في احتلال ما احتلته لأن لها القوة الكافية للحسم دون حاجة للدهاء التفاوضي والدبلوماسي الذي تستعمله.
ومن علامات الغدر الإيراني -وقبلها كان غدر الأنظمة العربية الذين وظفوا القضية الفلسطينية في عنترياتهم الداخلية- أنها تشجع تنافس الحركات في غزة وفي لبنان لمنع كل إمكانية لتحقيق المصالحة الفلسطينية ومنع الفاعليتين الدبلوماسية (فتح) والمقاومية (حماس) إذ كل منهما تلغي الأخرى.
وختاما فإيران لا تعنيها فلسطين بل سلطانها في الأقليم حتى يتعامل معها الغرب بوصفها قوة لا يمكن علاج أي ملف فيه من دون رضاها. وما نجد في التاريخ ثورة تحرير نجحت وهي محكومة بأمراء حرب تمولهم قوى خارجية فيصبحون من جنس خبراء الأمم المتحدة همهم إطالة المشكل بدل علاجه وحله.
وفي حين ترى يهود العالم يتصرفون وكأنهم قبيلة واحدة لها قيادات متحدة رغم كونها موزعة على كل بلاد العالم تجد غزة وهي “حكة” أقل من معتمدية في تونس فيها حركات لا تحصى. فهي مثل الأحزاب في تونس متاجر لكسب المال وليست حركات تحرير تضطر حاضنتها لحياة شبه مستحيلة حتى لو استثنينا حماس من هذا المنزع.
لو كانت ثورة الجزائر في القرن الماضي متعددة الحركات التي يزايد بعضها على بعضها لفشلت أو لتفتت الجزائر كالحال في فلسطين لأنها اليوم مؤلفة من خمس كيانات لا يوحد بينها قضية ذات قيادة موحدة:

  1. الضفة
  2. عرب أسرائيل
  3. غزة
  4. اللاجئين في الاقليم
  5. اللاجئين في بقية العالم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock