مقالات

الجبهة الشعبية.. التصدّع في اليسار ليس جديدا

نور الدين الغيلوفي

الحديث عن الحاجة إلى يسار اجتماعي ينتصر للفقراء ويدافع عن الكادحين ويناضل لأجل استقلال الوطن بمختلف مكوّناته وينتصر للثورة الوطنية الديمقراطية ويقطع مع الصراع الهوويّ الذي يهدّد وحدة المجتمع التونسيّ كما كتب بعض الأصدقاء شيء، والأسف على تفكّك الجبهة الشعبية شيء آخر.. فلا اليسار التونسيّ بيسار اجتماعيّ ولا في زواله خوف على الديمقراطية ولا في استمرار تماسكه ما ينفع أو يضرّ.
انتهت الجبهة الشعبية إلى تصدّع ظلّ كامنا في جسمها مذ وُلدت ولادتَها القيصرية قبل خمس سنوات، وخروجُ التصدّع إلى العلن لا يضيف جديدا إذ أنّ هذا الكيان كان منذ نشأته كيانا انفجاريّا يحمل فناءه في أحشائه، وإذن فلا شيء يستدعي فرح الفرحين بتصدّع الجبهة إذ لا خير قد وُضع بتصدّعها، ولا شيء يستحقّ أسف المتأسفين إذ لا خيرَ قد رُفع بذلك..
هل شكّلت الجبهة الشعبية إضافة للبلاد يؤسف على غيابها؟
الديمقراطية تقتضي الاختلاف والتعدّد واحترام حرية المختلف في أفق تنافس شريف بين الفرقاء يستهدف الدفاعَ عن حرية الناس وصيانة حقوقهم، مواطنين متساوين، وتحقيقَ العدالة الاجتماعية والحرصَ على مَنَعَةِ الوطن على قاعدة القانون ضمن اجتماع بشريّ، غير ملائكيّ، تخترقه الحسابات والأهواء والمصالح الشخصية والحزبية والفئوية، وهذا أمر عاديّ في كلّ اجتماع سياسيّ، ولكنّه يحسم أمره بالاحتكام إلى القوانين المرعية داخل المؤسسات المعنيّة…
ولكن هل كانت الجبهة الشعبية تستجيب لمقتضيات الديمقراطية تلك؟
من المعلوم أن الجبهة الشعبية، التي تكونت في 7 أكتوبر من عام 2012، لم تأتِ لتحقيق أهداف الثورة كما جاء في تسميتها (الجبهة الشعبيّة لتحقيق أهداف الثورة) ولكنّها إنما تشكّلت من أجل التصدّي للإسلام السياسيّ ممثَّلا في حركة النهضة باعتبارها حزبا كبيرا منظّما له شعبية ضاربة في أعماق الشعب تصعب منافسته من أحزاب يسارية منفردة، أحزاب نخبوية لا يجمع بينها سوى موقف جذري من الإسلام السياسيّ.. وقد تشكّلت الجبهة من أجل ذلك فقط.. ولا يقولنّ أحد إنّها قد تكوّنت لمواجهة المنظومة القديمة أو ضدّ الكمبرادور أو الرأسمالية التابعة أو لإقامة المجتمع الشيوعيّ اللاطبقيّ أو ما شابه ذلك من عناوين قديمة تخلّى عنها أصحابها عند أوّل امتحان انتخابيّ.. غير أنّها، وهي في طريق سياسي مفتوح، لم تنجح في مخاطبة شعبها بلغة يفهمها ولم تبذل أدنى جهد في فهمه وقراءة أشواقه ولم تلتفت إلى مشاكله الحقيقيّة بسبب تعالي قياداتها على الجماهير أوّلا وبسبب حدّة خطابها المتشنّج ضدّ خصومها ثانيا وقصر أنشطتها على قطع الطريق عليهم بدل الانصراف إلى المشاركة في وضع الحلول للمشاكل المستعصية التي تعصف بالبلاد.. فلا تكاد تجد تصريحا لقياديّ من الجبهة الشعبية لا يهاجم فيه حركة النهضة كيفما كان الموضوع المتداوَل كما لو أن حركة النهضة هي موضوع القول الوحيد لدى هؤلاء، حتّى صار بعضهم محلّ تندّر.. ومن الأمثلة على ذلك ما قاله النائب البرلماني عمّار عمروسيّة لمّا سئل عن موقف الجبهة الشعبية من محاكمة قتلة الزعيم صالح بن يوسف في إطار برنامج العدالة الانتقالية.. قال في إجابته عن السؤال: “حركة النهضة يطغى عليها منطق الانتقام والتشفّي، وهي ناقمة على الشعب التونسيّ، ولم تكتف بانتقام ثماني سنوات”.. وقال في حوار إذاعيّ معه بشأن ما أصاب جبهته من تصدّع في المدّة الأخيرة: “الانشقاق داخل الجبهة يفرح النهضة”.
صحيح أن اليسار التونسي كان منشغلا في مرحلة ما من مراحل تكوّنه بفهم طبيعة المجتمع غير أنّه لم يفهم شيئا عن المجتمع لأنّه لم يقترب منه ليفهمه.. ولمّا كان انشغاله منفصلا عن المجتمع فقد أدّى به إلى انقسامات حادّة جعلت منه فرقا متناحرة كلّ فرقة منها تدّعي لنفسها الفهم وتنفيه عن غيرها.. وعبارة “فرق” تعود إلى زعيم حزب العمال حمّة الهمّامي وردت في كتابه المجتمع التونسي الذي ألّفه سنة 1989.. وقد جاء في الصفحة 185 منه “اهتمّت كلّ الفرق التي تنسب نفسها إلى الاشتراكية بمسألة تحديد أسلوب الإنتاج الاجتماعيّ. غير أنّ أغلبيّة هذه الفرق ساهمت في تعتيم المسألة بشكل مضرّ للغاية..” على أنّ جميع تلك الفرق، التي ذكرها الهمّامي لم تتمكن من الاقتراب من المجتمع التونسيّ ولا من فهم طبيعته، لأن مطلبها كان تطويع المجتمع لموافقة مقولات التراث الماركسي اللينيني وليس امتحانَ تلك المقولات النظرية في قراءة المجتمع وتنسيبها باعتبارها قولا بشريا محكوما بشروط إنتاجه.. وقد شهد حمّة الهمّامي نفسه بذلك في قوله: “إنّ أيّا من تلك الفرق لم يسترشد بمبادئ المادية التاريخية… الأمر الذي قادها إلى اتّخاذ مواقف في السياسة انتهازيّة”.. ص 185
لم يكن هدف أيّ من تلك الفرق فهم المجتمع ولا العمل على تغييره وكل ما كان يتداوله هؤلاء من جدال كان محض رياضة تنظيرية يمارسها رفاق يتنافسون حفظ نصوص استقدموها عُلبا جاهزة يتوهمون قدرتها السحرية على وصف المشاكل ووضع الحلول لمجتمع لا يتكلمون لغته ولا يفهمون شيئا عن أعماقه.. وعلى قاعدة النصوص المقدّسة تلك نشأت التصدّعات الأولى التي أصابت مجتمع يسار تونسيّ ظلّ حبيس أدبيات لينين وتروتسكي يجني منها ثورته الاشتراكية المرتقبة في تونس.. ولمّا جدّد اليسار نفسه انصرف إلى تراث ماو تسي تونغ ليبشّر بثورة “وطنية ديمقراطية” في تونس شبيهة بالثورة الصينية (الهاشمي الطرودي، أضواء على اليسار التونسيّ، حركة آفاق نموذجا، دار محمّد علي الحامّي للنشر، ط1، 2014، ص61).. فلا هم فهموا المجتمع الذي ينتمون إليه ولا هم أنضجوا قراءة موحّدة لمتونهم توافق بيئتهم.
لقد كان يسار ما بعد الحزب الشيوعي التونسيّ “التحريفيّ” مع حركة برسبكتيف رتقا فانفتق وصارت الصدوع مرافقة له كما لو أنها لعنة تطارده.. وكلما صارت له قوّة ذات معنى نشب الخصام بين قادته ونشأت الشقوق وتصدّع الجسم حتّى صار التصدّع نشاطا ملازما لليسار التونسيّ.. وما كانت الصدوع في أعماقه استحال عليه رتق فتوقه.. وكان عاجزا عن رتق فتوق الوطن.
كلّ تلك التصدّعات إنّما هي نتيجة غياب الديمقراطية لدى هؤلاء.. يختلفون، والاختلاف ظاهرة صحية، غير أنّهم لا يحسنون إدارة اختلافاتهم ونتيجة لبن الدكتاتورية الذي رضعوه من أدبياتهم المستوردة فإن اجتماعهم ينتهي غالبا إلى التصدّع كلّما تداولوا أمرا خلافيّا.. لذلك ترى اليسار في بلادنا على قلّة عدد المنتسبين إليه مللا ونحلا حتّى أنّ الأسماء لم تسلم من التمزيق نتيجة عراكاتهم التي لا تنتهي فترى بعضهم يحتكر أداة التعريف ليبقى البعض الآخر اسما نكرة كما حصل بين “الوطد” المعرفة و”وطد” النكرة في لحظة ما من لحظات التشقّق.. وذلك شأن الكيانات اللاديمقراطية التي إن لم تجد السلاح لتصفية بعضها تشقّقت ودبّ التصدّع إليها.. ونشأت من تصدّعها كيانات موازية منافسة أو معادية.
ما الذي حفظ تماسك الجبهة طيلة خمس سنوت؟
لقد ظلت حركة النهضة هي الإسمنت الذي يشدّ جدار الجبهة أكثر من خمس سنوات ولولاها لما أمكن هؤلاء أن يتمّوا اجتماعا واحدا دون انشقاق.. وقد نجحوا في تسويق قضية اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي ليكون اتهام النهضة هو اللحمة التي تشدّ سداهم.. غير أنّ فشلهم في مواصلة اتهامها جعل عقدهم ينفرط ويعودوا إلى ما دأبوا عليه من تهارش صار شرطا لإمكانهم وعلامة عليهم.
تراهم كلما تكلم طرف منهم اتّهم خصمه بأقبح التهم، فعمار عمروسية يقول: “الرفيق منجي الرحوي لا يؤتمن على خيار الجبهة وخيار الوطن.. وزعم أنه لا يزال متحفّظا على حقائق خطيرة وأليمة ومدمّرة”.. وعلّق بأن “القلاع تؤتى من داخلها”.. فكيف يقوم بناء يقول بعضه في بعضه مثل هذه الأقوال؟ وكيف تكون جبهة لحمتها التخوين؟
أما منجي الرحوي فقد أقرّ، في ردّه، بأنّه “ليس في الجبهة تكريس للممارسة الديمقراطية بل ثمّة خوف من الديمقراطية”.. وقال في حمّة الهمّامي وشقيقه الجيلاني ما لم يسعفه قوله يوما في قياديّ من قيادات حركة النهضة.
هؤلاء يعترفون بأنّهم نواقض للديمقراطية وحرب على الاختلاف فكيف يأمنهم شعب على نفسه؟ وكيف تنتصر بهم ديمقراطية؟
هل بقي مبرّر لحديث عن يسار تونسيّ يؤمن بالحرية ويحفظ الديمقراطيّة ويصون خيارات الشعب؟
وهل بقي يسارا ذاك الذي تحوّل، كما عبّر المؤرّخ عبد الحليل بوقرّة، من حمّال أحلام إلى يافطة اتّهام”؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock