تدوينات تونسية

نادلة رانبراند

منجي الفرحاني

– أكسبرسّو مع قليل من الحليب كالعادة سيّدي؟ ثمّ أردفت: كيف حالك؟ لم أعد أراك في هذه الرّبوع..
– أنا بخير سيّدتي الكريمة.. لقد عدتّ منذ بضع سنين إلى بلدي الأصليّ تونس بعد أن قامت فيه ثورة هزّت عرش دكتاتوره وحرّرت حلم شعوب المنطقة كلّها من جديد.. أظنّك سمعت بثورات الرّببع العربي وصولا إلى الجزائر والسّودان هذه الأيّام!
قالت:
– طبعا تابعت.. الشّعوب تريد أن تتحرّر والسّاسة عندنا في الغرب لا يفكّرون إلاّ في مصالحهم ويكفرون بأيّ ديمقراطيّة تهدّدها.. يا ربّي كم أمقتهم! أعتذر سيّدي، أنا على عمل..
فعلت بها السّنين ما فعلت ولكنّها لازالت تحافظ على بريقها وابتسامتها الدّائمة.. عندما عادت بقهوتي سألتني عن رأيي في زيارة رئيس المجلس العسكريّ السّودانيّ لمصر ولصاحب المنشار.. نعم، صاحب المنشار، هكذا قالتها..
– أنت على عمل سيّدتي وسؤالك يحمل إجابته.. أولم تقولي عنها مشبوهة؟! هي فعلا كذلك…
نادلة مثقّفة ومتابعة لما يحدث في عالم أصبح قرية صغيرة نتيجة عولمة هي في أوجها اليوم.. تذكّرت مسابقة تجريها إحدى القنوات التلفزيّة الهولنديّة عن أحداث العام عندما يشارف على نهايته، تشارك فيها كلّ فئات المجتمع من فنّانين وإعلاميّين وسياسيّين وعمّال بالفكر والسّاعد الخ… ربحها قبل بضع سنين عامل نظافة.. من يناديه الأوباش عندنا في تونس زبّالا..
النّادل في «مقهى العبث» لم يتعلّم يوما أنّ قهوتي عربيّة وأنّ الحديث عن مؤخّرة هذه وضرع تلك وشعر لحية أخرى يقزّزني ولكنّه للأسف لا يتقن غيره، فاللّهم «وهفا» وسلاما تصفعه به على دماغه الخاوية وتريح فناجيني من جهله…
طبعا أنا لا أرضى له «وهفا» مكتمل الأوصاف…
سلّمت على النّادلة المحترمة وغادرت وطعم القهوة يعبث بفؤادي، يحلّق بي بين لوحات رانبراند وحقول التوليب وصراع البلاد الدّائم ضدّ البحر والشّعر الأشقر يعبث به الرّيح لفتاة مرّت على درّاجتها مبتسمة..
يقولون إنّ اللّه خلق العالم وهم خلقوا هولندا.. عندما تجوب شوارعهم ومدنهم وترى انجازاتهم وتتحدّث معهم يتّضح لك ذلك جليّا.. أمّا النّظافة فحدّث ولا حرج..
كان بيت الرّاحة في مقهى رانبراند نظيفا وأنيقا ومعطّرا يحلو فيه المقام ويبوح بمدى تطوّر الإنسان هنا..
أمّا في «مقهى العبث» هناك فإذا حصل أنّك لابدّ داخله فلتستعذ باللّه من شياطين الجنّ والإنس وأصحاب المقاهي ولتغلق أنفك جيّدا ولتحاول أن تجد لك موطأ قدم بين المياه الآسنة وبقايا السّجائر وغيرها من الموبقات كبقايا فضلات من سبقوك الرّاكدة لأنّ «الشاس» معطّل منذ سنين..
وهناك من سيقول في نفسه «مفيّشا» كديك روميّ مخصيّ وهو لا يعلم: نحن أنظف، نحن نتوضّأ أكثر من خمس مرّات في اليوم..
– تي تتوضّى حتّى بماء زمزم تبقى امسّخ في عيني طالما تقبل تدخل تتوضّى في ميضة ناتنة جيفة وتسكت يا دمدوم، دندون، يا واشسمك!!!
عكّر الدّيك الروميّ مزاجي فألقمته غيمة حجبته عنّي بعد أن تكفّلتْ بدفنه في مكان منسيّ في عقلي الباطن إلى أجل غير مسمّى وأراحتني من «تفييشه».. لا بدّ أن أتمتّع برحلتي وأتجنّب ما يعكّر صفوي من ديكة وحمير وعيون عسليّة مزيّفة…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock