مقالات

إنحرافات العمل النقابي

علي المسعودي
العمل النقابي هو بالضرورة عمل مضاد للحكم مهما كانت منطلقاته الايديولوجية. فإذا فقد هذه الضدية فذلك إما لانحراف في الممارسة النقابية أو لتبنّي السلطة جملة المطالب العمالية، وهو أمر غير ممكن بلغة الصراع الطبقي المتعارف عليها.
•••
لم يكن العمل النقابي في تونس مجردا من عامل السياسة منذ بواكيره الأولى. هذا التداخل بين السياسي والنقابي خلق منذ البداية أزمة هوية. فالطبقة العاملة التي بدأت في التشكل مع ظهور الحقبة الكولونيالية كانت ضعيفة كما ووعيا، ولكن متطلبات حركة التحرر الوطني فرضت هذا التنظم النقابي قبل الأوان.
ومع الزمن، أصبح العمل النقابي جزءا مكملا للعمل السياسي، فالنقابي هي صفة ثانوية لسياسيين تقلبوا في مناصب حزبية مختلفة، أو انتموا في أضعف الأيمان إلى الشعب الدستورية المنتشرة في طول وعرض البلاد.
كانت البوصلة واضحة في ذلك الوقت، فلم تكن السلطة الاستعمارية خصما اجتماعيا فحسب، بل أيضا العدو الذي يمارس فعل الاغتصاب مرتين: اغتصاب قوة العمل واغتصاب الوطن.
ولكن مع إعلان وثيقة الاستقلال ضاعت البوصلة ودخل العمل النقابي في المرحلة التحريفية الكبرى التي ساهمت في الحفاظ على دولة الاستبداد ربع قرن أو يزيد.
كان من المفترض أن تنكفئ المنظمة الشغيلة بعيدا عن السلطة الجديدة، وأن تعود إلى وظيفتها الأصلية كطرف مضاد، يسعى لتحسين شروط العمل.. ولكن ذلك لم يعْد غير فرضية طوباوية غير قابلة للتحقق. فزعماء الحركة النقابية هم أيضا زعماء الحركة الوطنية.. ومن الطبيعي أن يكونوا ممثلين في المجلس التأسيسي الأول، بل وفي الديوان السياسي وأن يكونوا جزءا هاما من أول حكومة وطنية بعد الاستقلال.
لم يكن الاشتغال بالسياسة بدعة في ذلك الوقت، ولم يطرح أحد مخاطر هذا الاشتغال مع طول الأمد.
وللأسف، كان ذلك مدخلا لأول تدجين للعمل النقابي، فقد انتقلنا من العمل النقابي المضاد إلى الممارسة النقابية على شاكلة دول أوربا الشرقية !.
لم تحسّن الطبقة العاملة من شروط استغلالها، ولا تخلت البورجوازية الناشئة عن الحكم طوعا لصالحها.. بل انسلخت القيادة عن القاعدة لتتذوق لأول مرة رحيق السلطة، وتصبح شركة استغلال بالمناولة لحساب الغير، مع بعض الفتات… ولن يدحض هذا الواقع ما دأبت عليه أدبيات العمل النقابي من تبرير غير مقنع يتحدث عن تطابق البرامج الاجتماعية للخصمين اللدودين !!.
هكذا نشأت البيروقراطية النقابية، وهكذا انعقد زواج الأقارب الآثم بين النقابي والسياسي.. وهو زواج خلق تشوها في النسل، ومع ذلك لم تنفصم عراه إلى اليوم.
كانت فترة الستينات هي فترة الزواج السعيد، حيث سمح بورقيبة للقيادات النقابية بغزو مختلف مواقع السلطة بما فيها رئاسة الوزراء.. وفي الأثناء، كانت أناه تتضخم، واستبداده يتعاظم.. وكانت هذه بتلك.
وكانت فترة السبعينات هي فترة الصراع على المغانم.. فالمجاهد الأكبر لم يعد يرضى بمن يقاسمه الحكم، والاتحاد لم يعد يقبل، في كل مرة، بقضمة فم.. كان الصراع مريرا، وطويلا.. حتى أريقت على جوانبه الدماء، ذات شتاء !.
لم يكن جانفي 1978 صراعا مع السلطة، بل كان صراعا داخل أجنحة السلطة.. وأما الدماء فهي بلا قيمة، لقد نزفتها شرايين البسطاء !.
غير أن جانفي 1978 كان أيضا تاريخا لبداية هدنة غير معلنة وتقاسم نفوذ، لعبة شد حبال لا تخرج عن السيطرة. فكلا الطرفين أصبح يعرف حدود قوته، وكلاهما أصبح يخشى استفزاز خصمه..
لم يعد الاتحاد العام التونسي راغبا في عودة قياداته إلى السجون، كما رغبت السلطة منذ ذلك الوقت عن استعمال القوة القاهرة، بما أنّ الناعم منها يفي يالغرض ويزيد !.
لا يمكن قراءة المشهد الآني دون الرجوع إلى هذا التشابك بين النقابي والسياسي منذ فجر الاستقلال. كما لا يمكن تصور إصلاح حقيقي للعمل النقابي دون أن يأخذ مسافة من السلطة السياسية -أيا كانت- وتعلن قياداته تخليها النهائي عن أطماعها السلطوية، الظاهرة والخفية.. ولكن تصريحات أعضاء المكتب التنفيذي هذه الأيام، والتي تكشف إما عن نوايا اصطفاف سياسي، أو مشاركة انتخابية تصيب المتابع بالاحباط… فالتاريخ أصبح سجنا لهم، وليس عظة ومعتبرا.
لو بقي الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة عمالية خالصة، لبقي في جنة النضال وأصبح قادته من جنس الملائكة، ولكن بورقيبه الماكر، أطعمه من تفاحة السياسة حتى أنزله إلى جحيم العمل النقابي المهادن طورا، والثائر طورا آخر، ليس حبا في القواعد، بل رغبة في المقاعد !.
سينبري بعضهم إلى كيل تهم التشويه بلا حساب. أدعوهم فقط إلى قراءة التاريخ.. تاريخ الاتحاد العام التونسي، بلا شك، فيه صفحات ناصعة البياض، ولكن صفحة البيروقراطية النقابية التي كنت بصدد ذكرها ليست واحدة منها على الاطلاق.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock