مقالات

الفساد أداة الإستبداد وغايته

أبو يعرب المرزوقي
وهو ظاهرة سياسية معقدة لا تعالج بالأماني
الثورات لا تغير شيئا مباشرة بل هي الصدمة التي تجعل التغيير يصبح ممكنا ولا تغيير إلا بالإصلاح المتدرج وخاصة إذا كان من الأسوأ إلى الأحسن لأن عكسه شبه سقوط حر لا يحتاج لإرادة وعزم ومثابرة وجهاد دائم لمنع النكوص خلال التدرج نحو الأحسن بسبب كون الإفساد أيسر من الإصلاح والتهديم أيسر من البناء.
وليس ذلك لأن الإنسان سيء بالطبع لا بل لأن الفساد هو أقرب السبل وأسرعها لتحقيق الغايات الدنيوية في كل الجماعات البشرية. فإذا كان يمكن أن أشتري شهادة وأستطيع أن أعمل بها في مجتمع تباع فيه الشهادات والمسؤوليات فلم اتعب عقودا وأجتهد في الدراسة ما دام النجاح غنيا عن الكفاءة والخلق؟
وإذا كان يكفي أن أكون في السلطة أو تابعا لمن هو فيها لأصبح من رجال الأعمال لأن الدولة تعطيني ما أطلب من التصرف في خدماتها وتمولني ولست مطالبا حتى برد ما استعرته من بنوك القطاع العام فما الحاجة للإبداع في الأعمال أو حتى للفكر لأنه يكفيني أن أسرق فكرة أو أن استورد مشروعا مع المبدعين؟ لذلك فمن أراد أن يصلح شأن أمة فلا بد له من أمرين:
1. خارطة الفساد وأصوله التي تنتج ثقافة الفساد العامة في الجماعة للتمييز بين الفساد القاطر والفساد المقطور. ومعرفة أن الداء في الأول وليس في الثاني إذ في كل عصابة الرؤوس قاطرة والبقية مقطورة. والعلاج: قص راس الفساد المتبوع تنشف عروق الفساد التابع.
والفساد المتبوع موجود في صلب الدولة وهو نوعان وقد درستهما بإفاضة بعنوان الانتخابين في التربية والتكوين وفي العمل والتموين. فهذان الجهازان هما أصل كل فساد واستبداد وفي كل دولة ولا تخلو منه دولة متقدمة أو متأخرة.
والفروق كمية.
فوظيفة التكوين هي تنشئة بشر يجمعون بين الكفاءة والخلق. وهذا شبه معدوم في انظمتنا التكوينية التي هي “سيبة”(فوضى) وفي انظمتنا التموينية التي هي اشد تسيبا.
ووظيفة التموين هي وضع العامل أو العاملة المناسبة في المكان المناسب بعد التخرج من وظيفة التكوين. وهنا يتبع الفساد الثاني الفساد الأول بمعنى فساد الانتخاب في التكوين علته الفساد في التموين. فالتوظيف لا يخضع لمعياري الكفاءة والأخلاق بل للولاء وشبكة الفساد التي تحكم النظامين.
والنتيجة: تكوين فاسد من حيث الكفاءة والخلق لا يمكن أن يعطينا تموينا صالحا فيهما. وأخطر أوهام “الثورية” ظن العملية يكفي فيها تغيير “من يحكم”. فلا يوجد في أي بلاد في العالم “من يحكم” محدد لتحديد المسؤولية بدقة. ما يوجد هو من يمثل من يحكم وهي سلسلة طويلة وهي ما يسمى بالدولة العميقة. وهذه الشبكات الخفية من لم تستطع إفساده تعزله والعجيب أن ذلك يتم في الغالب بدعوى مقاومة الفساد.
2. ولنأت إلى الأمر الثاني وهو المحرك الخفي في ما يجري في المجتمعات. فللقوتين المادية والرمزية المباشرتيـن وغير المباشرتين وهما جوهر السياسة في كل المجتمعات البشرية. ذلك أن السياسة تستعمل القوتين اللطيفتين والقوتين العنيفتين لتحقق أهدافها بأقل كلفة. ومنها الأمر الأول أي الانتخابين.
لما قلت إن الثورة لا تغير شيئا لا أشك في أن الكثير اعتبرني أمزح. نعم هي لا تغير شيئا بل تفتح أفق التغيير بالصدمة التي تفسد هذا الأمر الثاني لمدة قصيرة وقصيرة جدا. وإذا لم يفهم الثوار ذلك فإن “الروتور دو لامانيفال” يرجع الأمور إلى ما كانت عليه وأحيانا إلى ما هو أسوأ مما كان عليه.
والصدمة الثورية تدخل الفوضى في الشبكة المافياوية التي تـحتاج لوقت حتى تعيد ترتيب صفوفها. وإذا لم نكتشف طريقة لمنع استعادتها للمبادرة فإن الثورة تصبح أداة الثورة المضادة. فالمافية تتبنى خطاب الثورة لتجعله أداة تهديمها بالمزايدة على الممكن بالإيهام بأن كل شيء ممكن للاستفادة من حسن نية الثوريين المتحمسين.
فما هما القوتان؟
العنيفة هي بالذات الشارع وهي العنف الإرهابي. والهدف استعادة مناخ الخوف الذي كانت صدمة الثورة قد حررت منه المضطهدين في لحظة الصدمة التي جمدت قوة اعدائها. والنتيجة هي السعي لـجعل الناس يختارون بين الأمن والحرية. ومن الطبيعي أن الناس في النهاية يفضلون الأمن على الحرية. وتلك بداية ارتداد (مشغل المحرك) المانيفال.
لكن السلاح اللطيف هو الأقوى لأنه الأخبث.
وهو ذو فرعين وهما مثل الأول وجهان من الإرهاب. الأول هو ما به تضرب الأرزاق أو الاقتصاد. وما أسميه لطيفا ليس الاقتصاد ذاته بل أداة نظامه أي العملة. فالعملة العادية أداة تبادل. لكن عندما تفقد قيمتها بقصد تصبح أداة سلطان على المتبادلين بسياسة افقار قصدي لغالبية الشعب والتهاب الأسعار بسبب تدني قيمة العملة فيحمل الثورة مسؤولية ذلك.
ثم يأتي الجزء الثاني من القوة اللطيفة. وهو الأخطر لأنه جوهر الإرهاب الفكري والخلقي وهو الحرب الإعلامية القذرة على قيم الجماعة والتشكيك في الجميع وهي الصدمة المضادة للثورة المضادة. لماذا؟ ذلك أن الثورة المضادة فهمت أن الثورة علتها بداية رشد خلقي وقيمي في الجماعة. والرد هو ضربه: تيئيس الناس من القيم عندما يردون إلى الحاجات النباتية واللهيث وراء أدنى مستويات العيش الكريم.
فتجتمع أربعة أسلحة:
1. اثنان ماديان وعنيفان هما قوة الشارع المضاد وقوة الإرهاب المادي لتعطيل الحياة وإعادة الخوف.
2. واثنان روحيان لطيفان هما ضرب قيم الجماعة المادية ورمزها العملة الخبيثة وضرب قيم الجماعة الروحية رمزها الكلمة الخبيثة. فتضرب الثورة في الأعماق وهي استراتيجية الحرب الحديثة.
وقد كتبت فيهما الكثير حتى قبل الثورة لأن شغلي الشاغل منذ أن كتبت الاجتماع النظري الخلدوني سنة 1976 كان ولا يزال فهم الاستراتيجية الغربية في منع عودة المسلمين للتاريخ الكوني. واكتشفت هذه الأدوات الأربعة التي يطبقها حمير الثورة العربية بنصائح من إسرائيل وإيران ومن يحميهما في الغرب.
سيحتج البعض: مالك تعطف إيران على إسرائيل؟
ما كنت لأفعل لو كان حمير قيادات الثورة المضادة في صف العرب التابعين لإسرائيل وحدهم. لكن الأنظمة العربية نوعان: نوع يتبع إسرائيل وتمثله الإمارات والسعودية ومصر. ونوع يتبع إيران وتمثله العراق وسوريا ولبنان. وكلاهما يحارب الثورة ويسعى لاستعباد أهل الإقليم واسترداد ما يسميه حقه في دار الإسلام قبل الإسلام.
لا مانع عندي أن يلومني أحد عن هذا العطف إذا استطاع أن يدحض هذه الحقيقة الماثلة للعيان. والغريب أن كلتا المجموعتين من الحمير العرب يبرر تبعيته لمن يحميه بمقاومة من يحتمي به الثاني. فكل نوع من الأنظمة التي يحكمها الحمير العرب يدعي مقاومة حامي الثاني وهم لا يحاربون إلا الشعوب وثورتها.
إسرائيل وإيران ومن ورائهما أمريكا وروسيا يخططان وحكام العرب وتوابعهم من النخب الدينية والعلمانية العميلتين ينفذون ويمولون حملات الأعداء. والهدف هو مواصلة تفتيت جغرافيتنا وتشتيت تاريخنا حتى لا نستعيد دورنا في العالم ويبقى الإقليم تابعا كما كان منذ خمسة قرون للقوى الغربية التي تستغل ثرواته وموقعه في التحكم في الكرة الأرضة التي صرنا فيها مجرد ممر.
وكان بحثي يكون عديم الفائدة لو كان يقتصر على التشخيص. فالتشخيص الذي لا يكتشف العلل ويقلبـها ليكتشف علاجها لا فائدة منه. واعتقد أني بفضل الله توصلت إلى العلاج وآمل للمرة الألف أن يكون للثورة قيادات تقرأ ولا تهزأ بالفكر الاستراتيجي بالقول يكفي تفلسفا نريد الرد على العنف بالعنف بسذاجة المتحمسين والكل يجري في ديارنا لتخريبها وتركها قاعا صفصفا.
ولهذه العلة سميت التفسير الذي شرعت فيه بـ”استراتيجية توحيد الإنسانية ومنطق السياسة المحمدية”. فالسر في ذلك هو أن نجاح ثورة الإسلام لم يكن بالمعجزات كما يتوهم الكثير بل بسبب هذين الوجهين والاستراتيجيات المترتبة على فهمها والعمل بها من أجل الخير ضد الشر. لو كان الإسلام دينا قوميا مثل اليهودية ولو كانت سياسة الرسول حماسة عقدية فحسب لفشل المشروع.
فكونه استراتيجية توحيد البشرية حرره من الحروب الدينية لأنه اعترف بها جميعا واعطاها حق الوجود الحر في دولته (البقرة 62 والمائدة 69 وحتى الحج 17). ولو كان يعمل في التاريخ بالمعجزات والخوارق لما قاد الرسول بنفسه 63 معركة خلال عشر سنوات بعد تكوين نواة الدولة في المدينة.
كيف ساس الرسول هذه النواة وكيف تمكنت من تحقيق بالاجتهاد والجهاد وليس بالمعجزات ولا خاصة بالحماسة ما نسميه اليوم دار الإسلام التي هي قلب العالم وأفضل ما فيه لتوسطها بين الأرض ولكونها تحتوي على ما لا يقدر من ثروات العالم وممراته. الاستراتيجية هي عدم الرماية في عماية. فالجراح الماهر لا يتجاوز ما يحتاج إليه لقلع الخلايا المريضة.
فهم الرسول الأسلحة الأربعة التي ذكرتها وفهم كيفية استعمالها لعلاج ما تسببه بقلبها على أصحابها. وأبدأ بالأخيرين. فهما يعتمدان على شراء ذمم الأبواق في الفكر الديني (يهود يثرب) والإعلامي (الشعراء). ما الذي كان يهود الجزيرة يتفوقون به على عربها؟ المال الربوي والتحريف الديني. فـماذا كان العلاج؟ ماذا فعل معهم؟ لم يحاربهم قبل أن يفتك منهم هذين التفوقين فـحارب الظاهرتين المال الربوي والدين المحرف. لكن هادن أصحابهما بمعنى أنه أكثر من مديح اليهود والتعامل معهم بالحسنى لأن خبثهم لا يمكن محاربته إلا بما هو أذكى منه. فالحقيقة أقوى سلاحا من الباطل. وقد انتصرت فعلا. فكانت الضربة القاضية في الوقت المناسب.
ونفس الشيء قيل في الشعر لئلا يبقى تحريفا للكلم بتعييره بعلاقته بالأفعال معيارا يجعل الفلسفة القرآنية في الشعر تعكس المعيار الأحمق الذي كان سائدا في النقد العربي التقليدي القائل إن أجمل الشعر اكذبه. فجعله القرآن أصدقه. وبذلك أصبح الشعراء على الأقل قبل الانحطاط يتجاوز المديح والهجاء لما يعلو بالإنسان. ولما انحط قال فيه ابن خلدون قولته الشهيرة في الكدية: لم يعد الشريف والكريم يتعاداه لأنه تحول إلى مهنة المتكدين مثل الإعلام العربي في عصرنا.
ونأتي الآن إلى القوة العنيفة. وهنا تبرز عبقرية السياسة المحمدية. فالحروب مكلفة على مستويين: الأموال والحيوات. وكلفة الحيوات أثقل وخسارتها أمر. لا بد إذن من استعمال المال للحد من القتال أو من كلفته. فأوجد في ميزانية الدولة ما يسمى بتأليف القلوب وهو تحييد الأعداء بالمال للحد منهم.
وهذا هو بيت القصيد في الحرب على الفساد الآن في تونس والجزائر. وسأضرب مثالا نصحت بتطبيقه لتأليف القلوب بين بارونات الإعلام. كان يمكن تحييدهم بمجرد ابقاء ما لديهم من امتيازات أعطاهم إياها النظام السابق حتى يصبحوا مدافعين عن الحق بدلا من الدفاع عن الباطل. ولن يعارض ذلك إلا من كان مؤمنا بحق بما كان يدافع عنه وهذا محترم ويمكن التعامل معه بصورة أخرى. لكن الكثير منهم يكون إما مرتزقا كجل صحفيي العرب أو مضطرا لعلل قد تكون مفهومة. لكن الكثير منهم يمكن أن يفضل الدفاع عن الحق مع عدم فقدام مصالحه حقا مكتسبا.
وقد عللت كلامي بأن رافضي هذه المعاملة لا يمكن أن يدعوا أنهم أعلم بالإسلام من الرسول ومن الله. تأليف القلوب هدفه نزع أسلحة الأعداء وليس الرشوة والمال الذي يدفع كان سيدفع في الحرب مع الخسارة في الحيوات. ذلك أن الفساد كما أسلفت نوعان: قاطر ومقطور. والإعلام من المقطور وليس من القاطر. لكنه سلاح “أقوى من الرصاص” بحق وليس بالمعنى المشهور: السياسي يفهم.
كنت أعلم أن الكثير من الإعلاميين كان غارقا بين القروض والالتزامات التي بناها على ما كان يحصل عليه للدفاع عن الباطل. والثورة التي تتجاهل ذلك يعني أنها خيرته بين الوفاء بالتزاماته أو عدمه. وعدمه يعني الإفلاس وخسران كل ما يملك. فلو حافظ على امتيازاته لفضل حتما “مجد” الدفاع عن الحق. فقليل من يتحمل كلفة الدفاع عن الحق بتفاني الزهاد وأخلاقهم.
وأختم بالإشارة إلى ما ختم به الفاروق هذه السياسة. ولكن قبل ذلك لا بد من مثالين من سياسة الرسول وسياسة من فهمها ومن لم يفهمها. فالرسول كان يفضل تأليف قلوب شيوخ القبائل على محاربتها. فكان ذلك أفضل سياسة لأنه أقل كلفة فضلا عن إنسانيته إذ هو يوسع دائرة المؤمنين بعدم جعلها وكأنها حرب على مصالحهم.
لو كان الخليجيون حقا يريدون استعادة الشرعية في اليمن لكانت كلفة يوم واحد من حربهم الحالية كافية لترضية جل شيوخ قبائل اليمن ولكانوا هم من يرجع الشرعية ويوحد اليمن. لكنهم بعنجهية غبية لدى أمير المنشار وبخبث صهيوني لدى المسيطر عليه هدموا اليمن ليفتتوه وليس لإعادة الشرعية بسياسة ذكية. لكن اليمن لن يعجزه استرداد سيادته وسيلقنهم درسا لا ينسوه ولا أقصد الحوثية فهؤلاء عملاء إيران وليسوا مخلصين لليمن.
لكن الأمريكان فهموا هذه السياسة ولما طبقوها في العراق استطاعوا بما يسمى الصحوات تحقيق اهدافهم بأقل كلفة بعد فشل سياسة العنجهية وما خسروه في المدينة المناضلة مدينة المساجد المشهورة. وحذار من الظن أنهم استعلموا سياسة الرسول بمنطق الرسول القيمي. فالسلاح كالدواء يصلح للموجب والسالب في آن.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock