مقالات

عضاريط العرب نخب كاريكاتورية في الإعلام والثقافة والسياسة

أبو يعرب المرزوقي
قد يعجب القاريء إذا سمعني أقول إني كلما تكلمت مع يساري أو قومي عربي أو مدع للحداثة والتنوير منهم أتساءل هل يوجد في ما هو أمامي غير الجسد المتكلم شيء يمكن أن يعتبر باطنا فيه غير ما يرد إلى تصوره أن كل شيء بدن ومادة ولا يوجد غير ما يدركه بحواسه ويشبع غرائزه؟
وليس عجبي من الظاهرة بل من شيوعها إلى حد يكاد يفيد التطابق بين مواقفهم. أعلم أنها في الغالب عامة حتى عند غيرهم في الحياة العادية لأن لحظات التأمل والغوص في أعماق الذات قليلة بالنسبة إلى الجميع وخاصة إذا تحلقت بلحظات التعالي على الانشداد إلى السيلان الأبدي إما بما يهجم على الإنسان من الحواس أو لما يغزوه من هموم الدنيا. لكن هل يوجد من لا يحلق خارج البدن ولو للحظات قليلة؟
فلحظات الانفلات من سجن الذات مناسباتها كثيرة وهي إما لحظات السعادة أو لحظات الشقاء القصويين اللتين رغم كونهما تمران بالحواس أو بالحوادس فهما انغماس خارج الذات في الجمال والجلال المتعاليين على الحدود والسدود. وفيهما وبهما يغادر الإنسان كيانه المتناهي والفاني فلا يبقى من المخلدين إلى الأرض مهما غلا في إلحاده.
عرفت ماديين وملحدين غربيين كثر. لكني ما رأيت فيهم الاكتفاء بالإخلاد إلى الأرض. فهم يذوقون الجمال والجلال ويحترمون المقدسات حتى وإن لم يكونوا مؤمنين بها لأنهم يحترمون مشاعر غيرهم ومعتقداته احتراما يدل على أخلاقهم وعلى رهافة شعورهم حتى وإن لم يشاركوا صاحبها معتقداته. لكن ذلك شبه معدوم عند من وصفت من العرب.
وحتى لا أعمم فلأقل إن هذا الارتسام هو الذي غلب من خلال ملاحظاتي الاستقرائية ممن عرفتهم من اليسار والقوميين العرب وخاصة أدعياء الفن والأدب منهم وبالأخص المتشاعرون ناهيك عن المتشاعرات. فأحد اعلام النقد الأدبي العربي مثلا قال مرة أمامي إن المرأة العفيقة والشريفة لا يمكن أن تكون من موضوعات الرواية. وآخر قال إن الرواية لا يمكن ألا تكون مقصورة على الذاتي ولم يكن يدرك الفرق بين الذاتي من حيث هو أحوال النفس الغافلة والذاتي من حيث هو من مقومات الذاتية. ولذلك فهم لا يرون من الجمال إلا المبتذل ومن الحياة إلى المآكل والمشارب ومن السياسة إلا استغلال النفوذ.
قد يتهمني البعض بأني مثالي ولا أفهم حقيقة الحداثة. ومن ثم يستنتجون أني أبالغ لأن الصورة التي أصف تبدو وكأنها تنفي عنهم كل معاني العمق الروحي والإنساني. لكن لسوء الحظ أكاد أزعم أن وصفي يبقى مع ذلك أقل بكثير مما رايته فيهم أو على الأقل في من يمثلون رموزهم ونجومهم. ومن علامات الابتذال أن كلامهم كله من التعبير المتدني الذي لا يتجاوز السباب والنكت الجنسية والعامية المبتذلة.
وليس قصدي تشويه أحد لأني لم أذكر أسماء ولم أعين أشخاصا بل القصد تحديد طبيعة الظاهرة ومحاولة فهم عللها. غالبا ما يكونون شديدي التشنج في خطابهم ويكفي أن تراهم في مجلس النواب أو في الندوات التي يسمونها علمية وفيهما تأكدت لي الظاهرة. وكالعادة فقد سبقني ابن خلدون في وصف الظاهرة وسأورد نصه من الفصل 18 من الباب الرابع في العمران الحضري بعنوان في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره ومؤذنه بفساده.
لكني لا أورد نصه لتطابق بين رؤيته ورؤيتي إذ هو يركز على مفعول الحضارة في المتحضرين القادرين على الترف في حين أني أركز على مفعولها في المتحاضرين من البدو أي ممن ليس لهم هذه الامكانيات. لكنهم يعانون من نفس الأعراض بسبب تقليد الحضر والتبعية ويمكن تسميتهم بالمقابلة الطبقية بما يحاول من هم من أدنى الطبقات الاجتماعية أن يتظاهروا به من تحضر ممسوخ. فتكون لهم رذائل الحضارة دون فضائلها.
يقول ابن خلدون: “وأما فساد أهلها في ذاتهم (اهل المدينة بعد وصول الحضارة إلى مرحلة الترف) واحدا واحدا على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفحور في الأيمان والرباء في البياعات. ثم تجدهم -لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف-أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقضاع بذلك وتجدهم أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقا لاكثرهم”.
وطبعا هذا الكلام لا ينطبق على أصحاب الترف الواجدين أي القادرين عليه بل على من يعيشونه دون شروطه المادية أو من يوصله الترف إلى فقدانها فيصبحون دون شروطه. والقادرون على الترف نوعان: إما الأغنياء القدامى أو الجدد. وهؤلاء أكثر تطرفا فيه من اولئك. وكلام ابن خلدون على ما يعنيني وليس على النوع الذي يعنيه هو. فمن أقصده باليساريين والقوميين والحداثيين العرب من الـ”لومبون بروليتاريات” أي من البدو الذين يتظاهرون بالتحضر أو من الأغنياء الجدد.
فالثقافة تخضع لقانون العرض والطلب والتنافس السوقي بالمعنيين (السوق والسوقة) مثل الاقتصاد بل هي قطاع من قطاعاته. وهذان النوعان من النخب هم قاعدتها الأساسية. لذلك فما أعنيه من اللومبون ليس العمال فحسب بل خاصة ما تمتليء به الساحة من أعشار المثقفين الذين يمثلون ذباب الساحة الإعلامية والثقافية والفنية والسياسية والذين هم خدم أصحاب الإمكانيات من المترفين أي أصحاب السلطان السياسي والاقتصادي من مافيات السلطة الفعلية. لكن من أعنيهم هم خاصة العائشين على فضلات موائدهم وخاصة من القوادة والأعلاميين وكل الطبالة من الثقافتين الدينية والعلمانية.
فالعضاريت موجودون بين الممتهنين لما يسمى بالثقافة التقليدية أو الدينية وما يسمى بالثقافة الحديثة أو “الفلسفية” يعني بكلمة كل الذين ليس لهم إمكانيات المترفين ويريدون العيش مثلهم ولو بفضلات موائدهم. وهذه الخاصية هي التي جعلت الأنظمة العسكرية والقبلية العربية تستعبدهم وتستبوقهم وتقتل كل ثقافة رفيعة يمكن أن تؤسس للإبداع الجمالي والجلالي.
فلا إبداع من دون أخلاق تتجاوز الإخلاد إلى الأرض. ولا أعني بالاخلاق شيئا آخر غير ما تنتجه الحرية من قيود الحاجة التي تؤدي إلى الإخلاد إلى الأرض حتى في التعبير عن هذا الإخلاد إلى الأرض بوصفه غرضا أدبيا.
ولا فرق بين العضاريت -أي من يعمل مقابل بطنه- في الثقافة والذباب في الإعلام. ومنهما ما هو ظاهر وتراهم في الصحف وفي البلاتوهات وفي من يؤدون دور المحامين على خيارات الأنظمة المستبدة والفاسدة ومحاولة تبرير ما لا يقبل التبرير لا بالعقل ولا بالنقل. ولا أقصر الأمر على الـمغتربين الخادمين لحكام الخليج بل كل من يخدم أي استبداد وفساد حتى في وطنه بوصفه مرتزقا وليس مدافعا عما يؤمن به حقا.
فما الشيء الذي بحثت عنه فيهم ولم أجده؟ إنه معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون. إنه المقومات التي بوجودها يصح الكلام على ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية وبغيابها يصح القول على فسادها. وهي خمسة مقومات:

  1. حرية الإرادة ومن يخضع لغرائزه يفقدها.
  2. صدق المعرفة ومن يفقد الحرية لا يتورع عن الكذب من أجل الفاني.
  3. خير القدرة والعبد الكاذب شرير ولا يمكن أن تكون له قدرة على الخير.
  4. جمال الحياة والعبد الكذوب والشرير لا يكون إلا قبيحا خلقيا وذوقيا.
  5. وجلال الوجود مستحيل عند من كان عبدا وكاذبا وشريرا وقبيحا. فهو لا يمكن ألا يكون ذليلا حتى لو صار أغنى الاغنياء.

ومن اجتمعت فيه العبودية والمعرفة المزيفة للحقيقة والقدرة الساعية إلى الشر والحياة التي لا تعاف القبح والوجود الذي يقبل الذل فسدت فيه معاني الإنسانية. لكنه لا يمكن أن يظهر ذلك. وهنا يأتي التدثر بالعلامات التي يراد بها الدلالة على العكس. فيجعل بدنه ليس بدن إنسان بل بدن من يحاول الظهور بكونه إنسانا فيصبح همه تغليب الظاهر على الباطن في كل شيء. لكن الظاهر الذي يحاول إظهار باطن غير موجود فعلا هو الخواء الوجودي أو خلو الذات من الكثافة الوجودية التي تجعله كيانه العضوي يشع روحا وقيما.
فيعوض عبوديته بالتكبر وكذبه بسمعة العلامة وشره بالتفضل على عبيده وقبحه بمدح الفضائل بالاقوال وضربها بالافعال لكن ذلك كله يذوب أمام ذلـه لـمن يستعبد إرادته فيجعله يكذب في الدفاع عنه مثلا ويضمر الشر للجميع لأنه يخاف من الجميع فيعيش على النميمة والدسيسة يجعل حياته قبيحة ووجوده ذليلا ومن ثم فكل ما تسمعه من سباب للجلالة وكلام بذيء هو في الحقيقة فورة ما مات في ذاته لأن الإنسان مهما فعل يبقى إنسانا فيعبر عما قتله من إنسانيته بما يدل على جريمة قتلها.
وذلك هو أصدق شيء فيه: ومعنى ذلك أن سب الجلالة والتظاهر بالقوة والتودد اللفظي والتجامل والتجالل كل ذلك شبه “خزي” النفس لذاتها بما تحاول به أن تعلو على وضعها بالطغيان اللفظي في سب الجلالة وما يتلوه وتجد هؤلاء أشد الناس قساوة على الضعفاء والأقرباء والغدر بمن يظنه من الأصدقاء.
وهذه الأوصاف يسيمها ابن خلدون “خرج” ويسميها المغاربة (في المغرب الأقصى وفي الجزائر) تيهوديت أي الشبيه باليهودي. وابن خلدون لم ينسب ذلك إلى اليهود من موقف عنصري بل العكس لأنه علل ذلك بما عاشه اليهود من استعباد واستذلال من الشعوب التي هيمنت عليهم في التاريخ وخاصة تحت الاستعمار الروماني ومن بعده في أوروبا الكاثوليكية. وبكلمة خاتمة يمكن القول إن من عاش الاضطهاد والظلم ينتهي إلى نتيجتين:

  1. اعتبار القيم كذبة لكنها صالحة لخداع من يؤمن بها.
  2. وأن الحياة الباطنية هي استراتيجية التحيل الدائم من شروط بقاء الضعيف وهي سر قوته ونجاحه في النهاية. وتلك هي علة العضرتة عند النخب لكنها بقيت دون سلطان اليهود. وهو إذن عند العلماني والقومي العربي فساد الإنسانية دون ثمرته التي نجدها عند اللوبيات الصهيونية والصفوية في العالم. ومن ثم فيمكن قسمة التحيل إلى نوعين:
    تحيل الأغبياء وهو ما يغلب على من أتلكم عليهم.
    وتحيل الأذكياء وهو سر سيطرة اللوبيات الصهيونية.

وهؤلاء بحاجة لأؤلك. ولذلك سميتهم “لمبون بروليتاريات” فهؤلاء يقصد بهم ماركس العملة التعويضيين لإفساد اضرابات العمال. فالعامل الذي يضرب يطلب حقا وليس معتديا. وصاحب المعمل يستغل العاطلين عن العمل الذين يقبلون افساد الإضراب بقبول تعويض العمال المضربين. كلاهم مظلوم. لكن الثاني يختار صف الظالم بدلا من الانضمام إلى المظلوم فينال حقه معه. تلك هي حال يسارييا وقومييا وسلفييا من جنس جماعة الاسكندرية.
قد يعجب القاريء مرة ثانية من كلامي. لكن حتى يفهم قصدي فليحاول الجواب عن السؤالين التاليين:

  1. كيف لإنسان يدعي العلم بكتاب الله يكون داعية للسيسي أو لحفتر أو لبشار أو لصاحب المنشار أو لمن يسيره؟
  2. وكيف ليساري أو قومي أن يحالف السيسـي وحفتر وبشار أو صاحب المنشار أو الملالي؟

هب الإخوان لا يصلحون لشيء فهل هذا كاف للتحالف مع المجرمين وحامييهم إسرائل وإيران في الإقليم وحاميي الحاميين أمريكا وروسيا اصطفافا مع من يستعبدون شعوبهم ويحتلون أرضهم. فأسرائيل وإيران يحتلان جل الأرض العربية وهما لا يختلفان عن الإخوان من حيث الاعتماد على مرجعية دينية ؟
فإذا كان العلماني والقومي العربيين يعاديان الإسلام من حيث هو دين لأنهم ملحدون فلا مانع عندي. هذه قضية لا تعني سواهم. لكن من المفروض أن يعادوا إيران لأنها تدعي الاسلام أكثر من الإخوان لأنها تضيف الوساطة الروحية والوصاية السياسية. وإسرائل أكثر منها لأنها تقول بشعب الله المختار وتعبتر البقية جوهيم أو عبيد لليهود وتؤسس وجودها على خرافات دينية. فإيران تضيف إلى الدين خرافات آل البيت والأيمة المعصومين وإسرائيل تضيف إلى الدين خرافات خرافات التوراة. أم إلحاد علمانيينا وقوميينا لا يعادي إلا الإسلام؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock