مقالات

المزايدات قد تعوق نجاح الجزائر

أبو يعرب المرزوقي
احسبوني رجعيا إذا كان بيان طبائع الأشياء رجعية. سأقدم تقديرا للنخبة السياسية في تونس وفي الجزائر في علاقة بما يحول دون نجاح الثورة. والهدف الجزائر وليس تونس لأنها في مرحلة “فات فيها الفوت” أعني أنه لم يعد بالوسع تدارك الوضع في تونس. أما الجزائر فلعل وعسى أن يعود “شاهد العقل” إلى نخبها قبل إضاعة الفرصة التاريخية التي لا تتكرر بيسر.
فالحراك يقرب من أسبوعه العاشر ولا يتقدم في العلاج إلا أكداس المزايدات وهي في الحقيقة مداخل الاختراقات. والقوة الوحيدة التي يمكن أن تفعل هي الجيش. ولا أدري هل بطء العلاج لسوء نية كما يزعم المزايدون أو هو لعسر الوضع وهشاشته في بلد ليس له إلا مصدر وحيد لرعاية الحاجات الأولية لشعبه.
والثابت أن المستفيد الوحيد من تأخير هو اعداء الثورة. فالاتانتيسم (الانتظارية) هي فرصة أعداء الثورة لاسترجاع أنفاسهم وإحكام التخطيط لمؤامراتهم والاستفادة من نفاذ صبر الشارع وما قد ينتج عن اختراقه من الأفاعيل الهادفة إلى تعفين الجو وتضخيم المطالبات بالممكن واللاممكن بمقضى المعيقات الموضوعية التي لا تكفي فيها الإرادة والنوايا الحسنة.
ليس الآن وقت السؤال عن علة هذه الوضعية المؤلمة في بلد يكاد يكون أكبر من أوروبا كلها. المهم هو الوضع كما هو. ودخل الدولة تدنى إلى اقل من نصف ما كان عليه في سنوات البحبوحة البترولية. والسرقات لا يمكن أن تتوقف لأن الفساد ليس مقصورا على أعلامه بل هو سياسة نسقية.
ففي كل مصالح الدول العربية والجزائر ليست استثناء ولعلها من بين الأفسد في الأقليم. وعموم الفساد يعني أنه أصبح نظام إدارة للبلد وكل مؤسساتها وشركاتها حتى وإن كانت رؤوس الفساد قليلة ككل المافيات التي تنخر كيان الدولة وتفسد بالموازي لكل أنشطتها باستغلال النفوذ الذي ينتج عنها.
وإذا كانت الجزائر أقل تلوثا من تونس في ما يتلعق بصلتها بتراثها وبقيمها الدينية (أكثر محافظة) فإن مصدر التبعية يبقى واحدة في المغرب كله بدوله الأربعة التابعة للاستعمار الفرنسي وهم نوعا النخب فيها : النخب المتفرنسة سواء كان ثقافية أو اقتصادية أو سياسية والنخب المتعربة التابعة الأحزاب المشرقية بعثية كانت أو ناصرية أو شيعية.
ورغم أني ليست عميق الاطلاع على الصحة الخلقية والوطنية في جيش الجزائر وخاصة في أجياله التي كانت ذات صلة بفرنسا فإني مع ذلك أقدم حسن النية واعتبر أن حذر القائد الحالي دليل حكمة وليس دليل سوء نية إذ حتى لو اقتصر تصفية المافيات على ما تم فهو بداية طيبة ولأن ما يحاك للجزائر مهول من عرب الثورة المضادة ومن فرنسا وخاصة من إسرائيل لأمر معلوم.
فإسرائل ومعها أمريكا يتهمان الجزائر بأن لها مشروعا سريا للتسلح النووي -وقد يكون صحيحا- وهو ما يجعلها هدفا حتميا لإسرائيل التي تريد الاستفراد بالردع النووي. وفرنسا تخشى ذلك أيضا لأنه شرط مناعة من تتصور مواصلة استغلال ثرواته وابتزازه. ولذلك فكل المؤامرات على الجزائر متوقعة وأكاد أرى حبكتها بين باريس وتل ابيب وواشطن. والمدخل المباشر متعذر وإذن فليبيا هي الممر.
وليس هذا فحسب هو الذي يجعلني لم أفهم منطق المزايدين من النخب. ما لم أجد له تفسيرا هو رؤيتهم للسياسة وكأنها عمل ملائكة:
1. يستثنون الاختلاف الثقافي.
2. والمصالح الاقتصادية.
وهصما ما تعود إليه كل صراعات البشر التي تتحكم في السياسة ولا يتكلمون إلا على المثاليات التي تدل على السذاجة لتوهم كل شيء يكفي فيه الإرادة خلطا بين الأماني والحقائق. فتسمعهم يحللون الوضع في الجزائر وكأن المعركة هي بين العسكر والحراك. لكن المعركة يمكن أن تكون في العسكر نفسه وفي الحراك نفسه ثم بين العسكر والحراك وبين القوى السياسية المخلصة للوطن والقوى السياسية التي ترى مصلحتها مع فرنسا أو مع أمريكا أو مع إسرائل أو حتى مع الشيطان للحفاظ على مصالحها.
والتحليل السياسي عامة والفعل السياسي خاصة لا بد لهما من اعتبار كل ذلك لا الاقتصار على “الكل وإلا بلاش” أي “قع” التي قد تكون أكبر عائق يضيع الفرصة على الجزائر لأنه سيدخلها في التصفيات المتبادلة. ذلك أن “قع” ليس لها حد. ويمكن أن تؤدي إلى “أقعاع” بلا حد إذ إن كل جماعة قد تعين من لا ترضى عنه لعلل ليست بالضرورة حقيقية فتطالب باستبعاده فلا يبق إلا عديم الخبرة.
ولأضرب مثالا: تصوروا أن الرسول لما بدأ في تكوين الدولة استثنى كل ما كان معاديا للرسالة قبل إسلامه هل كان الإسلام يستطيع أن يصبح قوة قادرة على فتح فارس وبيزنطة وتحرير الإقليم كله من هتين الامبراطوريتين في خمسين سنة؟ أما كان عليه حينها أن ينتظر حتى يكون قادة عسكريين من مستوى خالد بن الوليد؟
فالمفروض ان تكون الثورة فرصة لقلب صفحة الماضي وأن تجب ما قبلها لكل من يريد أن يكون من جندها. فالكثير من قيادات الجزائر -وخاصة الشابة منها- يمكن أن يكونوا قد صاروا تابعين لفاسدين بسبب إكراهات النظام الفاسد وأنهم إذا توفرت لهم فرصة التعويض مستعدون لخدمة الوطن في نظام غير فاسد. وأكاد أجزم أمرين ينتجان عن مقارنة تاريخية بين مصر والجزائر مثلا:
1. لا يمكن ان يكون جيش التحرير الجزائري قد وصل إلى الحالة التي عليها الجيش المصري وخاصة منذ كامب داود.
2. لا يمكن للشعب الجزائري أن يكون قد وصل به الإذلال والإهانة إلى ما وصلتا إليه مع الشعب المصري.
ولذلك فإني اتوسم الكثير من الخير في الجيش والشعب الجزائريين واعتقد أنهما يبحثان فعلا عن محرج يرجع للجزائر دورها لأنها قد عانت من التقزيم ولم تستفد من ثورتها التحريرية التي كان من المفروض أن تجعلها من قادات افريقيا كلها وليس المغرب الكبير وحده: كنت دائما أتصورها ألمانيا العرب على الأقل كما بدت في أيام بومدين الذي مثل طموح الجزائر لدور عالمي رغم النزعة الاستبدادية.
وأختم: يا نخبة الجزائر لا تضيعوا الفرصة التاريخية التي توفرت للجزائر ولكل المغاربة بل وكل الاقليم لكي تستعيد الجزائر دورها وتخرج من هذه الهشاشة التي قد تجرها إلى ما حيك لسوريا وما يحاك لتركيا من الأعداء أعني من الثورة المضادة العربية الإيرانية ومن مؤامرات إسرائيل وفرنسا خاصة.
سارعوا بالحسم. وكم كنت أتمنى ألا تذهبوا مباشرة للانتخابات لأنها هي التي ستضعهم في الوضعية التونسية إذ ان الثورة ستنسى إذا لم توضع المؤسسات التي تحول دون تعويضها بالتنافس على الكراسي والحكم بين الاحزاب والشلل وتعود حليمة إلى عادتها القديمة أي سلطان الفساد والمافيات: أي مثل تونس. كان يكفي الاتفاق على توليفة من الثقات لتنظيم المرحلة الانتقالية التي تطبخ على مهل الانتقال الديموقراطي بتحديد شروطه التي تحول دون ما وقعت فيه تونس ومصر من قبل.
فإذا تعفن المناخ وكثرت المطالبات الاجتماعية نظرا للوضعية الاقتصادية فستسمعون الشارع الهادر حاليا من أجل مجد الجزائر والشعب كيف تتغير نبرته إلى شارع يتباكى على ما قبل الثورة لأنه يصبح طالبا أمرين ليس لحياة أي جماعة بشرية إمكان بدونهما: الأمن وشروط البقاء العضوي. لا تسمحوا هذا المآل الذي جعلني اطلق السياسة بالثلاث في تونس التي يقتلها تنافس الكراسي.
وبهذا المعنى فكل من يطلب تحقيق غاية الثورة كاملة من الدفعة الاولى ليس إلا خادما بوعي أو بغير وعي للثورة المضادة. وبهذه الطريقة أفسد أعداء الثورة في تونس حظوظ نجاحها والغريب أن المزايدين الذي كانوا يتكلمون باسم طهرية ثورية هم اليوم خدام أبو ظبي والسعودية وفرنسا في تونس صراحة.
وأزيدكم معلومة فهم مع حفتر ومع السيسي ومع بشار وضد الثورة بحجة مقاومة الظلامية ولا يقصدون بها النهضة لأن نخبة النخبة أرقى ألف مرة منهم حتى بحساب التكوين الغربي بل هم يقصدون ثقافة الشعب التي يريدون تغييرها باسم العلمانية اليعقوبية وباسم حداثة صاحب المنشار في السعودية.
وعندي أن “قع” إذا تجاوزت القيادات الكبرى -وهم قلة- فهي علامة على أن رافعيها بوعي أو بغير وعي يؤسسون لفشل الثورة لأن الثورات لا تربح الحروب بالضربة القاضية بل بالنقاط دائما فحتى الثورة الفرنسية التي استعملت القتل والعنف انتهت إلى امبراطورية مستبدة (نابليون) ثم إلى الرستوراسيون.
ومن يعرف فرنسا حق المعرفة -وهذا ما أدعيه لأني درست فيها وعلى أكبر فلاسفتها وأكبر علماء القانون فيها- يعلم أنها أقل بلاد الغرب ديموقراطية فهي ما تزال شبه ملكية وهو أمر بين خاصة في دستور الجمهورية الخامسة. والتسلط على حياة الناس باسم “دين” العلمانية اليعقوبية من أبشع ما يوجد في العالم.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock