مقالات

قـــــــطـــــــــــــط …

علي المسعودي
منذ يومين، أصبح المنزل خاليا إلا من بعض قطط الشوارع المتسللة إلى الحديقة… أي منذ أن غادرت زوجتي وأبناها إلى أهلنا في الريف.. تعودت في مثل هذه الظروف أن أستقل بنفسي… أعددت الفطور، وضبت الطاولة وجلست وحدي، أتناول الطعام في غير حماس. كان ذهني يهيم في أماكن شتى. ولم تنفع جلسات اليوغا المطولة في تثبيته في اللحظة الحاضرة.. فتحت التلفاز.. مائة قتيل في حلب.. مائة وثمانون في منبج.. كانت أرقاما بلا معنى.. فلم يعد هناك قتيل ولا قاتل وراء هذه الأرقام… سالت دموعي وأنا أتابع الأخبار.. وتأوهت رغما عني.. وازدادت حماستي مع الوقت.. فقد كان طعم الأكل لاذعا جدا !..
تذكرت الموعد فجأة.. فتركت كل شيء على حاله وانصرفت على عجل… مازال التلفاز يجتر أرقامه ورائي حتى بعد أن صفقت الباب بانفعال واحتواني الشارع الفسيح.. ألقيت بجسدي على المقعد الأمامي لسيارة التاكسي المتوقفة للتو، وأنا أشتم بيني وبين نفسي القطط السائبة التي قد تنط من النوافذ التي تركتها مفتوحة، ثم تأخذ مكاني على طاولة الطعام.
•••
الجو حار، والمقهى يعج بالحرفاء من كل لون.. كأسان من الشاي الأخضر وقهوة إيطالية. والحديث يقفز بين الثلاثة من موضوع إلى آخر.. لا هدف له إلا خلق جو من الألفة. يرن الهاتف فجأة.. الضوضاء لا تطاق.. لم أسمع شيئا.. يعود الهاتف إلى السكون ثم يرن مرة أخرى. ابتعدت قليلا حتى وقفت على الرصيف هربا من اللغط الذي حولي… وفي الأخير تناهت إلي ضوضاء كنت أخشى سماعها… ضوضاء أشد وقعا وثقلا من كل الضجيج الذي كان حولي. أنهيت المكالمة حتى قبل أن ينطق من كان في الطرف الآخر.. أحيانا لا نحتاج إلى ذلك .!
عدت إلى مكاني بالمجلس، عدت كمثل طفل انكسرت لعبته. تناولت علبة السجائر من على الطاولة، دفعت الحساب في هدوء. وغادرت بعد اعتذار مقتضب.. توقف أول تاكسي عند إشارتي.. فتح الباب الأمامي فجلست في مقعدي صامتا… لم أقاوم رغبة محمومة في الالتفات إلى السائق والتأمل في ملامحه… كان رجلا خمسينيا، يملأ وجهه الرضي. انتبه إلى اهتمامي به، وظن أنني أدعوه للحديث. فابتسم في وجهي، وانخرط في كلام بدأ متقطعا ثم استرسل… عدت إلى مشهد السيارات المنطلقة أمامنا وحركة المارة وقد استغرقني التفكير في أشياء كثيرة بلا رابط بينها إلى حد أني نسيت محدثي وموضوع الحديث. ولكنني أتذكر جيدا انطلاقة أساريره، وضحكته المجلجلة.. عندما استرجعت هذه الصورة وأنا على ناصية الشارع، تساءلت بعمق: كيف له أن يفعل ذلك ؟ ألا يعلم بالأمر !.
•••
المحطة مزدحمة، وأنا أبحث عن صاحب سيارة الأجرة. أشار أحدهم إلى رجل يطالع صحيفة وراء مقود سيارته.. سألته عن موعد خروجه. فرد في غير اهتمام: مازالت ثلاثة مقاعد شاغرة… انتابني غضب شديد من اسلوبه في االرد… كدت أصرخ في وجهه: هذه قلة احترام. ألا تعلم بالأمر!؟.. ولكني كتمت غيظي.. ورأيت يدي تمتد إلى باب السيارة لتفتحه، ولساني يشير إليه بالانطلاق فورا.. بدا عليه الذهول وعدم الفهم… فقلت دون أن ألتفت إليه: سأتكفل بباقي السفرة… أدار محرك السيارة في إذعان ودون أن تغادر علامات الذهول محياه.
يا لهذه السيارات وسواقها !.. كم أبوابا فتحت وأغلقت.. ولا أذكر عنها سوى قبضتي على المقبض. أما السائق، فلا يصرف إليك انتباهه الكلي إلا في لحظة واحدة.. تلك اللحظة التي تمتد فيها يداك إلى الأبواب. إنها -أي الأبواب- كل ما يستحق الاهتمام… أما أنت، فلا شيء.. أنت مجرد رقم.
•••
كان الوصول متأخرا.. متأخرا جدا… لا أدري، ربما شيء ما بداخلي أراد ذلك.. في الاستقبال، وبعد أن أتممنا الإجراءات الروتينية، قادنا موظف شاب إلى نهاية رواق طويل.. فتح باب البراد الكبير، وأشار إلى الدرج الأسفل.. كان مرقما في واجهته.. سحبته إلى الخارج بمعية أخي… كانت أمي تخجل دائما من أن تضمني إلى صدرها، وهي لن تفعل ذلك اليوم… كانت جسدا ضئيلا.. طفلا كسيحا يحتاج إلى الضم… نظرت مرة أخرى إلى هذا الجسد، واحتواني شعور موحش بأن طفولتي بأكملها ترقد أيضا هاهنا.. وتغيب إلى الأبد.
مازلت أعجز عن سرد تفاصيل كل ما حدث في ذلك اليوم الطويل، وما تلاه… ظل الأمر في غاية الغرابة إلى حد اليوم.. ولكني أذكر أنه عندما انطلقت الجنازة في طريق متعرج.. نظرت خلفي فجأة، وأخذت أحصي السيارات المتجهة نحو المدفن.. وقلت لنفسي: لا بد أن أحفظ هذا الرقم حتى أذكر لسائق سيارة الأجرة كم كانت القافلة مهيبة.. فهو على الأقل يهتم للأرقام أكثر من غيره.
في المقعد الأخير، وعلى طريق العودة، أخذتني سنة خفيفة من النوم. الغريب أني كنت متيقظ الذهن، وكلي الحضور هذه المرة، حتى وأنا نائم !. ولم تفتني كلمة أو دعابة مما تبادله الركاب من حولي. ولم يسرح ذهني إلا عندما نزلت من السيارة واتجهت صوب الطريق بلا هدف. ساعتها تخيلت قطا قد قفز من النافذة التي تركتها مفتوحة وأتى على كل ما في الصحون. وربما استدعى أصدقاءه الجوعى ليشاركوه الوليمة، ومشاهدة التلفاز… بالطبع لا تعني تلك الأرقام، أرقام القتلى، شيئا بالنسبة لهم. فهم ليسوا إلا مجموعة من القطط.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock