تدوينات تونسية

تُرى من فينا المجنون ؟

فتحي الشوك
كان ضخم الجثّة، طويل الشّعر، كثّ اللّحية، أشعث أغبر يرتدي خرقا ممزّقة رثّة بالكاد تخفي بعض جغرافيا جسده المكسوّ بطبقات تكتونية من الوسخ الموثّقة لتاريخ عذاباته.
أطلّ فجأة من باب المقهى ليهمّ بالدّخول فتدافع نحوه صاحبه ومن معه لصدّه وطرده ليصابون ببعض الدّوار والذّهول فالرّائحة المنبعثة منه تجعل الأنوف تتّخذ تجاهه مسافة أمان ليكتفون بالصّراخ والتعبير عن التقزّز والإشمئزاز.
كان ينتعل طبقة سميكة من الطّين الملبّد الأسود، يتقدّم بتؤدة وهو يخبط بقدميه فتسمع لوقعهما ركزا، سرواله مبلّل يشدّه بحبل غليظ حول وسطه ليتدلّى طرفه فيجرّه وكأنّه سلسلة من حديد، ضامّا يداه إلى الخلف لتخاله مقيّد.
اذهب، ارحل، من هذا؟ من يكون؟ معتوه جديد، مجنون؟””، لم يأبه لصياحهم ولا لحركاتهم ولا لملامح وجوهم المستنكرة المعبّرة على أشدّ معاني القرف والتقزّز، ليتّجه ويتسمّر قبالة تلفاز مثبّت وسط أحد الجدران لينسحب بعد ما سكبت المذيعة ما في زادها من أخبار وسط دهشة الحاضرين ومازاد في دهشتهم نصف ابتسامة ارتسمت على صفحة وجهه كاشفة عن فم تساقطت جلّ أسنانه.
خرج بخطوات أسرع من تلك الّتي دخل بها وكأنّه قضى حاجته ومبتغاه ليتّجه يمينا ثمّ ينعرج إلى أحد الأزقّة الضيّقة ويغيب عن الأنظار.
كنت من بين الحاضرين وقد أدهشني ما أدهشهم لترتابني مثلهم الشّكوك وتطاردني الظّنون: هل هو مجنون؟ أتراه لاعب جديد ما فتئ يدعّم طاقمه بوافد جديد على حساب فريق العاقلين؟ أم ترانا نحن المجانين؟
انتابني هاجس بأنه بإمكاني أو بإمكان أيّ منّا أن يكون مكانه لأتهرّب إلى قلم أبى أن يسكب ما فيه على ورقي الأبيض فأسحب سيجارة بنفس اللّون لأنفث دخانا تمثّل لي وكأنّه طيف ذاك الرّجل الأغبر، أطفأتها على عجل لأسحب هاتفي الغبيّ وأبحر في تصفّح أخباره:
حرق ثلاثة أشخاص لأنفسهم منهم خمسيني أستاذ للتربيّة “الدّينيّة”.
فتاة تخنق رضيعها الّذي كان ثمرة زنى محارم.
قاصرات في مشهد عنف سادي وكلام فاحش يبثّ على المباشر.
مومس تدرّب طفلها الّذي لم يبلغ الثلاث سنوات على شرب الجعّة والتدخين.
شابّ احترقت كبد أمّه بعد أن تلفت كبده وعجزوا عن زراعتها لضيق ذات يده.
سيّارات تاكسي وأجرة تحتجّ على الترفيع في سعر المحروقات وتقطع الطّرق بعد أن كانت سببا في ما آلت إليه الأوضاع من تردّي كبوق للدّعاية السّوداء وأدوات لنشر الكذب بشتّى الطّرق.
معركة في البرلمان وكأنّها في سوق أو حمّام بين نائبة ووزير بنفسجي استعرضوا فيها سلاطة اللّسان.
خبر خجول تسرّب باحتشام لمنع عشر فرنسيين يمتطون سيّارات دبلوماسية أرادوا اجتياز معبر رأس جدير بسلاحهم بكلّ عنجهيّة، وهو بالطّبع لم يتعرّض إلى أنّهم مرتزقة يقاتلون الى جانب المجرم حفتر الّذي ينتظره بعض “حفتريش” الدّاخل لاستقباله كقائد منقذ.
وزير فطحل ووحيد زمانه يجد حلّا للتّخفيض من سعر البيض بجعل الأربع ثلاث، وأحدهم يتّهم وزيرا بقطع الانترنت لمنع الكركرة و الصّآلة..
وختامها مسك، ندوة صحفية لفريق من أحد عشر عضو لكشف آخر ما أبدعته العقول التّونسية، أكبر حذاء طوله ثلاثة أمتار تخاله طائرة نفّاثة أو مركبة فضاء.
أخبار كطوفان الغثاء ينساب بعنف ليصدم ما بقي في من عقل، كم أحسد ذاك المجنون.. أم ترى من فينا المجنون ؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock