مقالات

نقابات، ومؤتمر…

علي المسعودي
أعتقد أن الاشكالية الحقيقية في العمل النقابي اليوم هي في عدم وضوح الرؤية حول دوره وماهيته.. البعض لا يحسبه إلا مصعدا اجتماعيا على حساب الطبقة الشغيلة، وطريقا نحو الزعامة مدى الحياة، وهذا يتطلب بالضرورة التنازل عن المبادئ في سوق الامتيازات، تلك هي البيروقراطية النقابية وفقا للتسمية الملطّفة والديبلوماسية.. والبعض يراه عملا ثوريا في جوهره لا يقبل المهادنة مع السلطة أو الركون إلى التسويات، هدفه النهائي ليس انتزاع الحقوق بل إسقاط الدولة مصدر القهر الطبقي، وعنوان السيادة البرجوازية في كل الأوقات.. تلك هي الرؤية التي تجعل من العمل النقابي يرقص دائما على ايقاع الفعل السياسي..
بين هذه الرؤية وتلك تجد القواعد نفسها في العراء، طعما للوصولية والسياسوية.. ويصبح العمل النقابي مجرّد توظيف، وحرفا من حروف الجرّ لا معنى له إلا بغيره.. وهذا ما يفسّر أزمة قطاع التعليم الثانوي الراهنة، عشية مؤتمر لا يحمل غير القديم المعاد.
•••
أنا لا أزكّي أحدا، واعتقادي أن مصيبة التعليم الثانوي هي مصيبة الجميع..
هل أحدّثكم عن القضايا الكبرى التي يتبنّاها المسار النضالي المشرف لنقابات التربية عموما ؟.. سأسوق بعضا من الأمثلة التي تقدم برهانا لا يقبل الدّحض على أن العمل النقابي يحفر في العمق !! :
أستاذ يتعرّض إلى عملية تحيّل في سوق العقارات فيطوف بزملائه في قاعة الأساتذة من أجل الإمضاء على عريضة للتنديد !
جرائم أخلاقية تستوجب التأديب والعقوبة لا تصل إلى القضاء بفضل التضامن النقابي !
صراعات متجددة كل سنة وسجال لا ينتهي بين نقابة الإداريين والقيمين أثناء عمليات ترسيم التلاميذ، حول من يجلس على المكتب ليتسلم وثائق الترسيم ومن يكتفي بتنظيم صفوف التلاميذ !..
إضرابات فجئية للقيمين والقيمين العامين تبدأ السادسة مساءا ! فتترك شللا مخيفا في المبيتات، وفي أحسن أحوالها تبدأ في السادسة صباحا، عندما يستفيق التلاميذ، إناثا وذكورا في مبيت بدون تأطير ويختلط الحابل فيه بالنابل، ولا أحد يعي خطورة هذا الاستهتار.
نقابة الإداريين تنتفض لكرامة منظوريها المهدورة بدم بارد من قبل سلطة الإشراف وترفض العمل بمذكرة صادرة عنها تتصل بإبطال العمل بالمنصة الرقمية.
نقابة الأساتذة تنتفض بدورها لكرامة التعليم وتسجل النوايا الخبيثة الكامنة وراء بعث هذه المنصة الواشية، وترفض العمل بمذكرة سابقة في الغرض.. أما بعض المعتدلين من النقابين فقد طالبوا بتوفير حاسوب وحامل رقمي لكل أستاذ حتى ينزعوا عن المنصة صفة المخبر الصغير !..
إذا كنت لا ترى في هذا النضال انتصارا للكرامة، وصونا للعرض النقابي في كل قطاع، فأنت أحد اثنين: حقود لا يريد الخير للتربية والتعليم أو نوفمبري يلهث وراء إرضاء أسياده البنفسجيين !..
وإذا كنت تحسب هذا النضال من صغائر الأمور فلتعلم أن نقابة الثانوي عدّته من العظائم.. إلى حدّ الاستعانة بعدول منفذين !!.
لقد عدنا إلى عصر القبيلة، وإلى عصر الغزو والسبي.. تلك هي السكتارية في حدّها الأقصى.
جوهر العمل النقابي في ميدان التربية، اليوم، هو التالي: لا تبحث عمّا يمكنك فعله من أجل التعليم، بل ابحث عما تستطيع عدم فعله ثم قاتل من أجل ذلك الجميع !
لمثل هذا يموت القلب من كمد، إن كان في القلب إيمان بإصلاح…
وعاشت نضالات كل القبائل !.
•••
أما صورة الرّاهن النضالي لقطاع طالما كان طلائعيا وعيا وطبقة، فهي صورة كارثية بامتياز.
ومن وجوه هذه الصورة كيفية صناعة الأزمة التفاوضية الأخيرة مع سلطة الإشراف وصولا إلى إمضاء الاتفاق.
في حرب 67، وعندما كان الاعلام الرسمي في دمشق يعلن عن اقتراب الجيش العربي السوري من أسوار القدس، كان جيش الدفاع يستحمّ في بحيرة طبريا، ويفترش للنوم سهل الدروز في أمان..
أما جامعتنا العامة فهي لم تمض في الواقع اتفاقا، بل وثيقة استسلام.. ومع ذلك ظل جنرالها يطوف شهرا كاملا بين الجهات ليضع أكاليل النصر، ويتذوق شيئا من قاطو الحفلات التي أقيمت على شرفه أمام العدسات..
نحن لا نزايد على أحد، ولم نرفع سقفا أو نضعه.. ولكننا نصف واقعا نقابيا همّه الأساسي هو المؤتمر والانتخابات حتى وإن بدا لك دفاعا عن جوهر العملية التربوية من خلال الشعارات.
الوجه الثاني هو ما نراه على الصفحات النقابية والأستاذية من استنساخ لماكينة بن علي الانتخابية بالكامل ودون رتوش.. فقط استبدلنا الوحدة الوطنية بالنقابية، وخونة الوطن بخونة العمل النقابي الشريف، إلى حدّ أن التقدم بقائمة انتخابية معارضة أصبح خروجا عن الميثاق ووقوعا في أشدّ المنكرات !.. أنا لا أدافع عن نجيب البرقاوي أو سواه، فهو بطبعه جزء من السيستام االذي يخوض معاركه البينية في كل دورة.. ولكني أدافع عن الحق في الاختلاف، وأنعي وعي القطاع الذي ارتدّ إلى عصر الرأي الواحد والزعيم الواحد.. وهو عصر مثلت مواحهته جزءا نيّرا من تاريخ النضال الأستاذي..
•••
من بؤس المخيّلة النقابية أن تدفع بالمدرسين إلى الاعتصام في برد الشتاء، وإلى التجمهر بعشرات الآلاف في شارع الشهداء.. فقط من أجل بضعة ملاليم لن تمنع عنهم الاحتياج والفقر الجاثم على كواهلهم مع نهاية كل شهر..
إن الاستيراتيجية الوحيدة الفاعلة في قطاع التعليم الثانوي هي استيراتيجية التبديد.. تبديد القوى الذاتية واستهلاكها في حروب طويلة، بلا هدف أو معنى.
مرة أخرى، أذكر أن الجامعة العامة للتعليم الثانوي ليست تجمعا لجامعي الحلفاء، ولا للحمّالين البائسين في ميناء، أو نقابة في مصانع لا زالت لا توفر لعمالتها الأجر الأدنى المضمون.. مع احترامنا لكل هذه المهن.. التعليم رسالة قبل أن يكون مهنة، وعليه من الخطأ أن تغرق الجامعة العامة في مطلبية صرفة تقودها دائما إلى أفق مسدود.
لا أفهم كيف يكون هذا القطاع مناضلا دون أن يحارب من أجل سدّ فجوة التسرب في سفينة التعليم التي تبلغ مآت الآلاف، ومن إجل إصلاح المسارات البيداغوجية والتكوينية المعطّلة منذ سنين.. ولا أفهم كيف يكون هذا القطاع مناضلا وهو يصمت عن تفقير المؤسسات التربوية إلى حدّ الإفلاس ولا يحارب من أجل مضاعفة ميزانية التعليم لوقف الانهيار.
ولا أفهم أيضا كيف يمكن للجامعة العامة أن تنتصب لحسابها الخاص، وأن لا تتفاعل في نضالاتها مع قطاع المتفقدين أو المرشدين في التوجيه وقطاع القيمين والإداريين.. وأن يكون كل همّها السطو على صلاحيات الآخرين، وأن تتغلغل داخل المنظومة التعليمية فقط من أجل أن تكون لوحدها الآمر الناهي، وأن تفرض أمرا واقعا ليس على الوزارة فحسب بل على جميع المتدخلين…
العقل السلطوي هو نفسه.. بالأمس كان تجمعيا واليوم أصبح نقابيّا.. والعقل السلطوي لا يفكر، أو يؤسس مشروعا، كل همّه أن يحتل مزيدا من المساحات ويملأ كل الفراغات.
سينفض المؤتمر في نهاية المطاف، وستفوز قائمة بعينها وفق كل الانتظارات.. وستتواصل سطوة النقابات على مصائر المدرّسين كحزب حاكم يجمع بين الدنيا والدين، من خلال النقل الانتخابية والسياسية، والحالات الانسانية المفبركة، والمكائد الصغيرة والكبيرة.. أما التعليم، هذا الرجل المريض، فسيدخل من جديد في سبات شتوي طويل، ولن تحاول ايقاظه إلا يد انتخابية قادمة لغاية في نفس جنرال..
إذا بشركم أحد ممتهني الدعاية الفايسبوكية بأن الصراع الدائر حاليا هو علامة ثراء فلا تأخذوا بُشْراه إلا في معنى الأضداد، وإذا قال أحدهم أن “نضالات” القطاع منذ سنتين لم تكن من أجل هذا المؤتمر فتبينوا ضلالة ما يقول.. وإذا ذهب في ظنكم أنه ثمة عمل نقابي في قطاع التعليم الثانوي، فسأصدق بدوري أنه ثمّة مؤسسة تعليمية عمومية في هذا الوطن!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock