مقالات

إلى كلِّ الجزائر والجزائريين.. رسالتان في المودَّة والموقف الثالث

المولدي عزديني
(أبو ميارى)
الرسالة الأول
طاب زمانكم… كنتم ولا زلتم (رجالاً ونساءًا) من أهل العظمة والمحبَّة والصداقة. وأنتم شرفاء من جهة النسب إلى هكذا أهل. وأينما كان الأحرار فهم أهل لكم في عالَمَيْ التاريخ والجغرافيا. صحيح أنَّ القائم على فعله أدرى من غيره بغرضه وعُدَّة إمكانه. غير أنَّ الأمر يتعلَّق بالتاريخ وما يمليه علينا من واجبات، فعزمت على مشاركتكم كلمة ممكنة. فليكن نظيرنا التاريخ ولا نعبأ وجدانًا وعقلاً بلغطِ مرجئة التاريخ العازم على التحرُّر من معيقاته المحلية والخارجية. فلكُم استحضار معمعة التاريخ. وقد يكون هذا فيما أقدِّر على النحو التالي:
الحياطة ممَّا آل إليه الوضع في تونس وسوريا. فالحركة الاجتماعية الثورية المترحِّلة هنا كما هناك تشهد انتكاسة وإن بنسبتَيْن متفاوتتيْن وبصورتَيْن مختلفتَيْن. ففي هذين البلديْن يتمُّ يوميًّا تثبيت عودةٍ أفظع لمنظومة الفساد والإفساد حاكمة باسم الثورة. ففي تونس حاكمة باسم مفاتنها التي قالتها أنظمة الاستعمار القديمة والمحدثة. وفي سوريا باسم فتنتها ودفعها عن بلد لم يعد بلدًا وعن شعبٍ لم تعد لحمة سداه المفقودة تُجْدِه نفعا وعن مدنٍ احترق بشرها وبركام حجرها اختلط الحيُّ والميت وتساويا في حظَّيْهما من الموت. وفي سوريا أُشير على الأسد الصغير باستثمار نغمة الإرهاب في تحويل منه وجماعته لوجهة ثورة شعب. ويشهد على هذا مسار الواقع في بدئه وحاضره. (وللمغرمين بالحجج المادية على غير سنَّة قاضي فاس في التحقيق أن يعودوا إلى أرشيف قناة روسيا اليوم). وحتى في تونس وبغير ذات الصيغة ينكَّل بنا من قِبَلِ كل الداعشيات بمختلف ألوانها. صحيح، أنَّ الإرهاب موجود ببلداننا ولا ريب. غير أنَّه ظاهرة كونية معولمة وموزَّعة بإحكام وإنصاف على الموتى والأحياء. وإذا تكلَّمنا بمنطق العلة الأولى أرسطيًّا فالإرهاب من صنع الاستعمار. وها نحن نتحمَّل إصره جيلا بعد جيل. غير أنَّنا نقوله بالعقل هاهنا وفقا لنحونا الخاص. لا وفقا لهوى الاستعماريْن الأبيض غير المباشر والأحمر المباشر. المهم نظيرنا التاريخ وهو الفيصل بيننا. الجماعة المعطِّلة للتاريخ هي النافية في البلديْن لما تبقَّى من آخر أنفاس الحرية الثائرة والحية. نافية لها وباسمها أيضا. ولا تهم الأحكام الإنشائية هنا إطلاقًا إلاَّ متى احتاج الواحد منَّا للتلهي برواية من سرديات التاريخ الماكر.
أوَّلاً: المهم أنتم أيُّها الجزائريون ماثلون اليوم أمام مسؤولية عظيمة شريفة. وهذه مسؤولية الشَّعب بالدرجة الأولى. ومن ممكنات هذه الحياطة:

  1. أنَّ كبرى الأحداث التاريخية تُبْنى جماعيًّا. فلا تتنافوا ولا تعادي جماعة منكم منافِستها على الحكم والتدبير.
  2. تنافسوا كأصحاب برامج سياسية متباينة ولا تتعادوا كأصحاب مذاهب أيديولوجية متناحرة. فكِّروا في تغيير وضع طبقيٍّ بأكمله. فهذا أنفع لكم وأصفع للفاسدين. إذْ عظمة الفعل والرَّفع من رهاناته يُفْشلان أهل الثورة المضادَّة قبل ردِّ الفعل. فهما صادمان مشلاَّن لهم فلا يستأنفون ردَّ الفعل مبكَّرا. بل، لا يستأنفون تطاولهم على أنفاس التثوير والتحرير إلاَّ لغطًا.
  3. من الأيديولوجيا ما هو محرِّر وثوري ومنها ما هو استعبادي وتبريري. والوجه الثاني منها هو الخبز اليومي في البلاد العربية اليوم، فاحذروه. وتجنَّبوا مقولات تعديم الفعل قبل أوانه. فلا يؤثِّم تيار سياسي آخر هو شريكه في التحرير والتثوير. ودعوا الصندوق وشأنه في استقلالية.
  4. إذا احتكمتم إلى الصندوق فلا تنكلوا إن كانت الانتخابات نزيهة وشفافة وديمقراطية. وإن زُّوِّرت فاستأنفوا الحراك الثوري.
  5. قد تُسْتعاد نغمة مقولات كثيرة بضدِّكم جميعا ولصهركم جميعا بداخل ذات الفرن. وعادة ما يبدأ هذا الأخير محمرًّا وينتهي مسودًّا. وهذه النغمة ستستعيد حقيقة «العشرية السوداء». صحيح تمام الصحَّة أنَّها كانت جدّ سوداء. ولا ريب، لقد كانت سوداء على الجميع. ولن يستلفها من التاريخ المنصرم أعداء التحرير اليوم بما هي حقيقة تاريخ، بل بما هي نجاعة خطاب. أمَّا الأَسْود من سوادها فهو مقصد الترهيب بها. والأصحُّ بشأن هذه النغمة المُستأنفة لوظيفتها أن تُطْرح الأسئلة التالية: هل العشريات الجزائرية الأخرى السابقة لها واللاَّحقة لم تكن سوداء هي أيضًا؟ وهل كانت أقلّ سوداوية أم أكثر؟ وما مقدار السوداوية في تلك العشريات نسبةً إلى سائر التاريخ العربي الراهن؟ ومن سوَّد تلك العشرية: أَوَاحِدٌ أم كثرة؟ وهل استحال المسوِّد إلى مركَّبٍ أنتم اليوم قادرون على تفكيكه بردِّ العلَّة المفردة منه حصرا إلى من سوَّد من هذه الجهة السلطانية القائمة أو تلك السلطانية المعارضة؟ وهل من سوَّد حينما سوَّد عن مقصد لتحمير المشهد بغرض الإرهاب والارتعاب؟ وهل ثمَّة من تمَّ الإيقاع به غفلةً منه في مطبِّ التسويد؟ ومن استثمر التسويد بغرض التحرُّر منه؟ ومن استثمره بغرض مزيد إشاعته فالتخويف به لثنيكم على الإقدام اليوم على تحرير التاريخ واستقامته المطلوبة في بلد المليون ونصف المليون شهيد؟ ألا نستنتج من المبالغة الخطابية بشأن العشرية السوداء تحويلا مدروسا بعقلانية لأنظاركم عن الراهن. إلى متى تبرِّر الاستبداديات لنفسها استثمارا سلفيًّا لما انصرم وهي الزاعمة حيلولتها دون كل السلفيات باسم كل التقدميات؟ وفي هذا الغرض، لكم من الكتب والتصريحات والشهادات الكثير ومنها على سبيل الذكر لا الحصر كتاب الحبيب سويدية «الحرب القذرة».
  6. ففي منطق الصراع، على المصارع/المقاوم ألاَّ يتردَّد في الاشتباك ولو في أدنى حيوزاته المتاحة للعراك التحريري. بل، قد يصنع المتطلِّعون إلى الحريَّة أحيانا حيوزاتهم مثلما كان يفعل كبار الثوَّار في التاريخ البشري. ولكم صُنِّعت لنا في تونس حيوزات مضادَّة لأنفاس التحرير والتثوير وباسم مقولة الثورة نفسها. ففي المعارك الراهنة بات يُسْتولى على خطاب الآخرين والتنكيل بهم تحت شتى عناوينه المفروزة أمنيًّا وعسكريًّا من قِبَلِ الاستعمارَيْنِ.
  7. وليست الحيوزات عند الاقتضاء جماعية بالضرورة. فحتى الفردية منها فعَّالة أحيانًا. المراكمة قانون صحيح من قوانين الفعل التاريخي. ولقد جُعِل الصراع لينفي أهل الحرية بنيةً مجتمعية تقوم على استرقاق الناس. ومن كل هذا بات اللامرئي أكثر من المرئي. ومن هذا مأتى البلاهة والتناحر وارتداد أهل الحرية أنفسهم لتسفيه بعضهم البعض. فيتآكلوا قبل تحرير الوطن والمجتمع والدولة.
  8. فتحرير هذه الكيانات مقدَّم على التصادم الحزبي القتَّال. ولقد وقع معظم التونسيين مبكَّرا في هكذا خطإ. حيث غاب التمييز والفصل بين مقاومة السلطان القائم وإضعاف مؤسسات الدولة والمجتمع الضعيفة بطبعها.
  9. فاحذروا من استيلاء الفاسدين على خطاب وفعل الأحرار العازمين على عتق ذواتهم. إنَّ روح الشعب هي محرار الوجهة في الفعل والتوقُّف المؤقَّت عنه متى لزم التكتيك. واستئنافه وتلوينه حصانةً له من مداخل التضليل وتغيير الوجهة التاريخية للحرية الناشئة.

ثانيًا: الحياطة ممَّا آل إليه الوضع في سوريا. وفي الجزائر، هذه مسؤولية الجيش الشعبي الوطني بالدرجة الأولى. ومن ممكنات هذه الحياطة:

  1. عدم وقوع الجيش في ما ستتعمَّده الجهات الاستعمارية من بثٍّ لنغمة الإرهاب والتخويف منه. وهي صانعته وإن كانت أدواته من بني الوطن مؤكَّدة. فمعالجة الإرهاب تكون بمعايير وطنية قائمة على استحضار ممكنات التاريخ المحلِّي واحتياجاته من أهله. ومثلما تمَّ في تونس، ستُصطنع شتى التهم والفيديوهات والوثائق. فبعضها حقيقي وبعضها الآخر نصف حقيقي. غير أنَّها تستهدف كلَّها التأسيس لجماعة من البلهاء المختصِّين في المقاربة البوليسية للتاريخ والحرية والأمن. ستصدع رؤوسكم كلُّ السرديات البيضاء. وفي الحين تشتغل مناجم التوزيع الاستراتيجي للفحم البشري. فيُمنح هذا منها نصيبه المغشوش بالمجان والحرمان. ويُمنح منها ذاك ذات النصيب بالشَّرط والقمع غير الأحمرَيْنِ. هكذا، يتمُّ في البلاد العربية عموما ضمان تعادل القوى (ولو كان وهميًّا). ثمَّ تتولَّى بعض مؤسسات الإعلام غير الوطنية توزيعية خانات المعركة على غير مستحقِّيها من الرجال سويَّةً ووسطائها من المثقَّفين الخارجين من باطن الأرض كالفِطر. فلا يُعْهد بالحقيقة الجزائرية المحْدثة إلاَّ لذوي الامتيازات الكبرى… امتيازات خشاش الأرض. أمَّا عَبَدة غير الإقبال ممَّن ذكرنا فقد هُيِّئوا للتنكيل بالتاريخ الحر. ولن يكون لهم من كبرى الانجازات إلاَّ ما يهدِّم في نفوس الثوار الأحرار كلَّ عزم على إبقاء أم المعارك حية… معركة الحرية.
  2. فكما يتم جنائيا تحويل وجهة أحدهم، يتمُّ في عصر الثقافة العولمية المتسارعة تحويل وجهة تواريخ البلدان العربية. فلا هي تهتدي بذاتها إلى مقصدها في أفضل الحالات السيئة، فتحتاج إلى ورثة كوندليزا رايس لاستئناف وصايتهم علينا. ولا هي تهتدي إلى مَن فعل بضدِّها الفعلة لتظلَّ ضامرة كالحبيس من أهل التواريخ العوانس.
  3. تعقَّلوا الكلمة والفعل والحاضر والمستقبل. واتعظوا بالماضي فهو من أسانيد الفاعلين في التاريخ. وبالتوفيق.
  4. عاشت الجزائر الحبيبة والشقيقة الرضيعة.

•••
الرسالة الثانية
طابت أزمنتنا… في المجتمعات التي تعاني من أزمة عتق ذاتها بذاتها: في الغالب يُحسن الفاعل تدبير السوء. فيُحْسن رادُّ الفعل سوء التدبير. لا بأس، يُفترض في معارك الخطابات بين العقلاء تقديم العناصر التالية: هل ينفع اختيار هذا الأمر أو ذاك التاريخ المجتمعي العام أم يضرُّ به؟ أيوجد من بين كل الخيارات فقط هذا التمشي الذي انتهجناه سبيلا لنا؟ أنخدم به العلم أم التعالم؟ لِمَ لا يكون الرفق بالكيان المجتمعي منارة المسير بالنسبة إلى ذوي النية السياسية الطيبة؟ هل من المقدَّر على الحركة المجتمعية العامَّة ألاَّ تعمل بأخلاقيات الرفعة في السياسة إذا كانت الدكتاتوريات السياسية والثقافية وحتى الجامعية قد لفظت كل أخلاقيات رفيعة في فِعالها؟
لا بأس من التعقُّل، وإن وقع المرء في الخطإ فلا عيب في ذلك. أمَّا أن يقع في إنتاج المغالطة أو إعادة توزيع المغالطات واستثمارها دونما حياء أخلاقي ونباهة فكرية وحكمة سياسية، فهذا ما لا يخدمنا في شيء… نحن كل الانسانية الحرَّة. والقول الذي منحه العصر للقُصَّر من الناس في عصر تعميم ثقافة العولمة الإسترقاقية، قول: إنَّني حرٌّ في قولي وفعلي لهو حماقة ضارَّة ومحمية حتى ببعض القوانين أحيانا. وإدراج ذات القول تحت عنوان: «وجهة نظر» لهو وقوع في تكتيك سياسي عولمي. حيث يُراد بالواقعين في مكيدته أن يضمنوا لاستراتيجيا تعذيب البشر ما يسمَّى في الفيزياء والاقتصاد بالتوازن. وهو في بُعد من أبعاده تعطيل مؤقَّت للحركة الصراعية بين قوى التحرير وقوى التنكيل. أمَّا ما يبدو لنا جديدا في منطق التوازن الراهن ومناطقه فهو إخراج قوى التنكيل من معارك قد تستنزف قواها. ففي تقنيات المعارك التحريرية اليوم تمَّ إخراج الكيانات المعادية للحرية بوضعها في موضع متعالٍ. وفي ذلك تأمين لها ولكلِّ الكائنات السائبة المُسْندة لها. كلُّ أنسنة للاستبداديات ودمقرطة لها قد تمَّ اليوم بإفرادها موضعا للفعل المؤمِّن لها عدم التعرُّض لجسارةٍ ومقاوَمةٍ كانتا تأتيانها في العادة قوى الحرية بضدِّها.
أمَّا اليوم وقد باتت قوى الحرية متَّهمة من قِبَلِ أعدائها بالشطط في قولها وفعلها، فإنَّ تعديلا مُلْحَقًا كضميمة بخرائطية التوازن جعل منه مقولة-لحافا يتقنَّع بها المعتلُّون بذواتهم والمغفَّلون بغيرهم. والغرض من هذا أن تظلَّ حركة المغفَّلين الواقعين للتوِّ في الجُبِّ من جنس البهتة=اللافعل. فتكون الحركة المغشوشة لأناس=ضحايا مغشوشين متمحورة حول ذاتها=مركزها فتردُّ الفعل الغضبي بضدِّ هذا المركز عينه ولا تتعدَّاه إلى الخارج. فلا ترى بخلافه مركزا آخر معاديا. غير أنَّنا بتنا نعلم بالتشخيص النقدي كيف أنَّ مركزة الضحايا بداخل ذات مدارهم، قد أحسنت ثقافة عولمة الاستعباد تبيئتها. إذْ يتمُّ توزيع نفس الضحايا على هيأة مجموعات دنيا حول محور رئيس واحد. محور فضائهم وفيه قد حُشروا. ثمَّ يُصاغ الحشر هنا على النحو الذي يضمن لكلِّ مجموعة على حدة الانفكاك عن غيرها من نظيراتها وقد شكَّلت لذاتها محورها الفرعي الخاص بها. بعدئذ ينادي منادي الإعلام المفروز استخباراتيًّا أن على الكل المحافظة على عافيته بمحافظته على التمحور حول مركزه واحتسابه سائر محاور الآخرين أهدافًا للقنص المادي واللامادِّي. وهكذا، نُرَدُّ نحن الضحايا إلى برِّيتنا. فتستولي المجموعة الواحدة منَّا (كالأسد واللبؤة) فقط على ملكية إقليم هو في زعمها لها من دون غيرها. لينسى الكلُّ عدوًّا خصيما متعاليا على الكلِّ، هانئا باحتفالية قتل الضحية للضحية. فتتصرَّف المجموعة الواحدة بمنتهى الأنانية والانحطاط، وقد حُفِّزت للتوِّ وعبر نشرة الأخبار الجديدة على معاداة سائر المجموعات الأخرى. أمَّا الإقليم المزعوم حيازته فلا مكان له ولا وجود له إلاَّ في عقارية الأذهان المعتلَّة لا الأعيان المتعافية. وأيًّا كان الإقليم فهو مُصاغ في الخانتَيْن النفسية والذهنيَّة المعتلَّتَيْن بما يتناسب حصرا وطائفيًّا مع حوزةٍ خطابية. حيازة ألفاظ لغةٍ وقد جرَّدتها مختبرات الإنسية المخنَّثة من مفاعيلها باستثناء مفعول التدمير والتخوين. نعم إنَّها حوزة خطابية تُرَدُّ بمنطقها كبرى مقولات اللغة البشرية إلى أدناها. فلا هي صائرة مُعْتِقة للناس ولا هي مُعْتَقة بهم. فالثقفوت لا يَعتق ولا يُعتق. لكلٍّ في أم المعارك هيأته ولغته. هكذا، وحسب. أمَّا بالنسبة إلى المجموعات المضطهَدة فقد حِيل بينها والخطاب المحرِّر. فلا مجموعة بقادرة على ترجمته فعلا جماعيًّا محرِّرًا. لأنَّها انصرفت مسرعة وبمنتهى الحماسة المغشوشة إلى منازلة مجموعة مجاورة لها في الأذهان و/أو الأعيان. والمتعالي لا يزال متعاليا في موضعه وفي جَوْره وفي استنزافه لضحاياه.
لا أدري حقيقة من أين تسرَّب لعقول الناس وأمزجتهم إقناعهم بهذا الجنس الجديد من أجناس الملكية: حوزة خطابية. ولصاحبها أن يغار عليها تماما وغَيْرته على جندرية سيداو… فالمهمة البيداغوجية للحوزة الخطابية الواحدة أن تسلب بِغَيْرَتها (الأيديولوجية المغشوشة) على حدود إقليمها سائر المجموعات المجاورة أذهانًا وأعيانا. وعليه، تفعل كل مجموعة ذات الفعل السالب. فتتشاكل كلها في الغرض وأدواته ونتائجه. أمَّا عن عناوين لزوم التمييز الحماسي بين المجموعات والفرز بينها والمفاضلة بين هيآتها وتواريخها ومقاصدها، فقد بتنا نعلم أنَّ معظم مفردات اللغة البشرية صارت على أتمِّ جاهزية لإسناد الألقاب والتوصيفات إلى هذا دون ذاك وخلعها على ذاك دون هذا. خاصَّة وأنها مفردات مِلْحيَّة قُدَّ ملمحها من صدإ التاريخ المعطَّل. بل، وانتُخِبت حروفها وحتى لهجتها وأساليب كنايتها. فها قَدْ قُدَّ لنا كلُّ هذا لأداء اللغة وظيفتها من تشهير أو تعزير أو تعزيز أو تقريظ أو تأطير أو تدجين أو ترويض… وإجمالاً، بحسب ما يقتضيه المقام من مقال، فالمنظومة جاهزة دوما.
وبالنتيجة، تَأْمن عولمة الاستعباد الراهنة أن تَلْزم كل مجموعة موضعها. وأن تفي بواجباتها. أمَّا عن حقوقها فالوعي بها، مجرَّد الوعي جد كافٍ. (ومن هنا مأتى الشعار المدرسي المغالطي: «وعي بالحقوق والتزام بالواجبات» وكأنَّنا بلسان حاله يقول في قراءتنا النقدية له: مجرَّد الوعي بحقوقكم منَّة منَّا عليكم. أمَّا متى تعلَّق الأمر بالواجبات حيالنا فعليكم بالالتزام بها). تلكم هي الجزية الوطنية المتخلِّدة بذمَّة المواطن العربي حتى يفارق… تتصيَّر كل الجماعات الكادحة إلى طيِّعة خنوعة. وكما لو كانت مدرَّبة عسكريًّا على الانضباط أو مستوعِبة لعلم حدود العقل الكانطي. وفي مدارٍ موازٍ من ذات رقعة التلهِّي الكبرى بآمالنا الكبرى، على أهل الثقافة المزيِّفة الاضطلاع بما عُهِد لكلٍّ منهم بمهامه. يستفرد الواحد منهم وسنده بالواحد منَّا غير مُسْنَدٍ. (هاهنا تغنى رابح درياسة قائلا: «آش يدير إلِّي حبابو وجيرانو كفَّار»). وحتى تلك الجزية التي دفعناها والمسمَّاة بالواجب لا تشفع للواحد منَّا في يقظته. وحتى في نومنا فيُخيَّل إليَّ أنَّها عليمة بالهانئ منَّا وغير الهانئ. أمَّا عن الوعي الموضعي بهكذا موضع من قِبَلِ الضحايا المفروزين عولميا من الصهيو-أمريكية فقد صُلب في الواحد منهم مقدَّما العقل المفكِّر… نعم، صلبته بعض مقولات البرامج المدرسية من قَبِيل ما ذكرنا للتوِّ. بل، وبعض الخطابات الصحفية وبعض صيغ التنشئة الأخلاقية والاجتماعية الهجينة. ومن يدري ربَّما سِيقَ بنا في التخطيط العمراني للمدن الجديدة إلى مغاور من الحبس والرقابة الذَّاتيَيْنِ (ولقد أشار بول فيريليو إلى شيء من هذا القبيل). فما صار العقل مهتديًا في الأمر من أموره بِقُبُلِهِ وإنَّما بغيره النقيض وجهةً واحتمالاً. هكذا، تنشأ المقولة الشبحية: الأمور أصبحت غامضة، غير واضحة. فيروِّجها الثقفوت. أمَّا العقلاء (ومنهم الفلاسفة بالأخصِّ) فلا يضاعفون من رعب الجماهير بتصديقهم أحكام الغموض وغير الوضوح ونغمة البلد داخل في حائط… في كلِّ الحوائط ما عدا حائط المبكى، فهو من جنس حالة الاستثناء (l’état d’exception). عفوا، ليس علينا ترديد أحكام الثقفوت بشأن كبرى قضايانا وأحداثنا. ولا يقول الفيلسوف بكلِّ هذا، وإنَّما يقول بالرمادية وله من العُدَّة المنهجية لتشخيص الرماديِّ وطبقاته.
أمَّا بداخل تلك الحيوزات-المواضع البيضاء فيُخيَّل لكلِّ مسترَقٍّ أنَّ عدوَّه هو حصرا مَن جاوره. وهكذا، يكون الفعل مجرَّد رد فعل غضبي سلبي ينفي محوره ومداره ولا يتفكَّر التوجُّه بالفعل إلى الخارج حيثما تنعم الصهيو-أمريكية بالراحة ولو المؤقَّتة. غير أنَّها راحة كافية لها إلى حين… نعم، إلى حين تكتيك آخر وضحايا أُخر ورسكلة أخرى لمفردات أخرى وانتظار مناسبات أخرى أو حتى اصطناع نظائر لها إن تعذَّرت لعلَّة طارئة، أو كأن يُؤْتى لكم بأسنِّ الناس لا بأكبرهم. وحينئذ لا بدَّ مجدَّدًا من إسنادٍ خطابيٍّ من الضفَّة الأخرى. ضفَّة حبلى بلغةٍ ورثتها عن أصلٍ تجاريٍّ ما اشتغل به الأحرار من أهل الملَّة قطُّ. لقد أسرَّ لنا القدامى من أجدادنا أنَّ تلك الضفَّة لا تتوفَّر إلاَّ على مَن داوم في حياته على الوَحَلِ والوَجَلِ.
أمَّا أولائك الذين كُتِب لهم الاستمرار في مجرَّد العيش البرِّي من طائفة الضحايا الأُوَل، فخرائطية جديدة سيتكفَّل بهندستها مَانِحو الألقاب التمجيدية لمحاصرتهم في مجرَّد خطاب الاستمتاع باسترداد الماضي خارج دائرة استثماره فعلاً فعَّالاً.
دمنا بعافية ودامت الإنسانية متنعِّمة بالعقل.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock