مقالات

حوارٌ بيني وبين صديقِ يساريٍّ ماتَ عامْ سبعينْ !؟

محمد كشكار
مواطن العالَم
اليسارِيُّ الحَيُّ: توجهتُ إلى مقبرة الشيوعيين، جلستُ فجلسَ جنبي حارسُ المقبرة الميتُ و”البيان الشيوعي” بين يدَيه، قرأ منه ما تيسّر ثم أخذ كُنَّشًا وقلمًا ليسجّل مناجاتي لصديقي، يرقنها في المساء ويرسلها برقيةً إلى المرشد الأعلى جوزيف ستالين (لم يُصدّقْ عندما قلتُ له أنه ماتَ منذ 1953).
موظف يؤدّي واجبَه، تركتُه وشأنَه وخاطبتُ صديقي قائلاً: يا عزيزي “توحشتك”، ظلمني أصدقاؤنا المشتركون، وكلهم كما تعرف يساريون ماركسيون، ولم أعدْ أجدُ مَن يسمعني فيهم أحدْ، بعدما عرفوا أنني تخليتُ عن ماركسيتي لكنني، لا تغضب قبل أن أكْمِلَ، والله لقد حافظتُ على يساريتي بل أضفتُ لها وطوّرتُها، خليطٌ متجانسٌ في جدلٍ خصبٍ متجدِّدِ، خليطٌ متنقِّلٌ بين يساريةٍ قديمةٍ، أقدم من ماركس نفسه، ويساريةٍ جديدةٍ، يساريةٍ تعاونيةٍ تضامنيةٍ كالتي انبثقت دون سابقِ إعلامٍ من رحمِ تجربةِ مسقط رأسَينا جمنة، تجربةِ الاقتصاد الاجتماعي-التضامني بواحة ستيل: يساريةٌ متصالحةٌ مع هوية شعبنا الأمازيغية-العربية-الإسلامية، يساريةٌ لم نناقشها في دارنا الظهراوية ولم نقرأ عنها عند ماركس لا أنجلس لا لينين، ولا عند روزا لا ماو لا ستالين، ولم يحكِ لنا عنها رفيقُنا المرحوم “العامل التونسي” (#) عند عودته من فرنسا.
لم آتِ اليومَ لهذا الغرض، إن شاء الله سوف أحكي لك عنها في الزيارة القادمة، لدينا وقتُ فراغٍ طويلٌ طويلْ، ولا شيء يشغلنا عن الثرثرة، أنتَ ميتٌ وأنا متقاعدٌ و”لَصْحابْ بِعْدوا ولَولادْ عرّسوا”.
اليسارِيُّ الميتُ: لماذا أتيتَ إذن؟ أعرفُ أنني الأقربُ لك بين أصحابِك، ترعرعتُ معك في نفس الحي و”اطّهّرْنا في نفس اليوم وفكّيتلي حلوتي”، أعرفُك “مْعانْدِي ورأسك كاسِحْ” أما -الله غالب- أحبُّ فيك عِنادَكَ ومُكاسَحَتَكَ، “برّا كمّلْ حْكايْتَكْ، هاني باشْ نِجبِدْ سيڤارو”!
اليسارِيُّ الحَيُّ: جئتُ أحدثُك عن حزبٍ تأسسَ بعدك في بلادك، حزبٌ يضم عشرات الآلاف من العمال والفلاحين والموظفين. واجهَ مناضلوه نظامَين بوليسِيَيْن مستبدَّيْن، الأول أنت صادفتُه والثاني أشْوَمُ، جاء بعدك. ناضلوا ضد الأول والثاني أربعين عامًا بالتمام والكمال أي منذ شيّعناك حتى مُوَفَّى سنة 2010: مات العشرات منهم تحت التعذيب أو بسببه. سُجن منهم ثلاثون ألف بتهمة الانتماء إلى تنظيمٍ غير مرخَّصٍ فيه وهُجِّرَ الآلافُ منهم قسرًا. صغارُهم عاشوا يتامَى وآباؤهم أحياءٌ، يُرزَقون من “الڤميلة”، لكنهم رغم ذلك ما زالوا أحياءً يُرزقون. زوجاتهم وأمهاتهم، سِجنُهنّ خارج الأسوارِ كان أتعسَ والمسئولية على أكتافِهنّ كانت أثقلَ. السجنُ دام أربعين عامًا، الهَمُّ ثمانين، والعذابُ اليوميُّ ترك على أجسادهم وأرواحهم وأرواح عائلاتهم بصماتٍ لن تمّحي. أربعون عامٍ من النضالِ السلميِّ تخلله ردُّ فعلٍ انتقاميٌّ مسلّحٌ في مناسبة أو مناسبتَين، أما في الأوساطِ الشعبية فكانوا كالسمكةِ في الماءِ على حدِّ تعبيرِ زعيمِكُمْ ماو تسي تونڤ.
اليسارِيُّ الميتُ: حزب عمّال وفلاحين وموظفين.. حسب ما فهمتُ. هل انخرطتَ فيه؟
اليسارِيُّ الحَيُّ: لا!
اليسارِيُّ الميتُ: ولماذا يا مُسالِم؟
اليسارِيُّ الحَيُّ: ليسوا منّا يا صديقي وليسوا في التفكيرِ مثلنا، لكنني لا أكرههم ولا أعاديهم، أخالفهم وأعارضهم وربي يسهّل عليهم، وكما قال مهبولُ قريتِنا، المرحوم الساسي بنحمد: “سْدادَتْهُمْ مَا جاتِشْ على كَسْكاسِي”!
اليسارِيُّ الميتُ: شوّقتني يا أخي لمعرفة إيديولوجية هذا الحزب، وأكادُ أجزمُ مسبّقًا أنه حزبٌ ماركسيٌّ لأن الماركسيين هم الوحيدونْ الذين لا يتغيرونْ وعلى إرثِ السلفِ دائمًا محافظونْ وفي المقاومة صامدونْ وللمواجهة المسلحة دومًا مستعدّونْ ومن الحاكمِ الشرسِ الظالمِ لا يخافونْ.
اليسارِيُّ الحَيُّ: أنا “ماكْ تِعْرِفْني هالأُووووونْ الكل منحبهاش”: الوحيدونْ.. لا يتغيرونْ.. محافظونْ.. صامدونْ.. مستعدّونْ.. لا يخافونْ.. أنا لستُ مستعدًّا أن أتَحَمُّلَ عُشرَ ما تحمّلَه هؤلاء الشجعانْ! أنا غاندِيُّ الهوى، مُسالمٌ من الدماغِ إلى النخاعِ، لكنني لو أجبِرتُ على الاختيارِ بين الجُبنِ والعنفِ، لاخترتُ الثاني ودون تردُّدٍ!
اليسارِيُّ الميتُ: أعرِفْ.. أعرِفْ.. سامحني: قلتَ “النضالِ السلميِّ”، يعني ليس لهم جيشُ تحريرٍ مثل جيشِ فيدال كاسترو؟ لو كنتُ مكانَهم لأنشأتُه؟ ما سُلِبَ بالقوّة لا يُسترَدُّ إلا بالقوة! الحرّيةُ!
فاصلْ ثم نعودْ: مسكينْ الحيّْ، لم يكن يعرفُ أن لصديقِه الميتِ جارٌ ماركسيٌّ ماتَ بسكتةٍ قلبيةٍ من هولِ الفرحةِ بعدما حضرَ المؤتمر الصحفي الأول لهيئة الدفاع عن الشهيدَيْن. نهضَ هذا الأخيرُ من قبره، توجهَ بالخطابِ إلى جاره صديقي وقال: “لا تصدّق ما نقله لك صديقُكَ عن هذا الحزب، صديقك هذا.. شيوعي مرتد ولن نسمح بدفنه في مقبرتنا، مقبرة الشيوعيين الصحاحْ”.
اليسارِيُّ الحَيُّ: لا تعرْه اهتمامًا، إنه يهذي. دعني أكمل لك فصول الملحمة، صحيح إنها ليست ملحمتنا ولكن هذا لا يمنع أنها ملحمة؟ أخيرًا قامت بعد موتك في البلاد ثورة.. لا تفرح كثيرًا.. ليست ثورةً كالثورة التي حلمنا بها سنوات الشباب، ثورةً لم نناقشها في دارنا الظهراوية ولم نقرأ عنها عند ماركس لا أنجلس لا لينين، ولا عند روزا لا ماو لا ستالين، ولم يحكِ لنا عنها رفيقُنا المرحوم “العامل التونسي” (#) عند عودته من فرنسا. هرب الديكتاتور الذي حكم بعد رحيلِكَ، صَدَرَ عفوٌ تشريعيٌّ عامٌّ فأطلِق سراحُ كل المناضلين الذين حكيتُ لك قصتَهم. نُظِّمَ في البلاد عُرسٌ انتخابيٌّ، عُرسٌ لا يشبهُ الأعراسَ التي عاصرتَها أنتَ في تونس أو قرأتَ عنها في البلدان الشيوعية. فازوا بالأغلبية.
اليسارِيُّ الميتُ: أنا أشك في ولائك للشيوعية مذ كنتُ حيًّا.. قلتَ ثورةً.. وغير ماركسية.. وسلمية.. وديمقراطية.. يعني رفاقنا “آوِتْ”. يظهرلي أن كل ما سمعته عنك طَلَعَ صحيحًا.. أيُسمّى مناضلٌ كل مَن هبْ ودبْ؟.. وهل يمكن أن توجدَ في العالم ثورةٌ غير الثورة البلشفية اللينينية؟.. وافرِضْ أنها ثورةٌ فهي لم توصِلْ رفاقَنا إلى الحكم، فكيف تراوغُني وتتحايل عليَّ وتطلب مني أن أباركها.. “برّا الله لا اتْبارِكْلَكْ ولا اتْبارِكْلْهم”.. غسلوا مخك، والشيء من مأتاه لا يُستغربُ.. أليس “غسلُ الأدمغةِ” اختصاصٌ من اختصاصاتهم الخسيسة؟.. لقد لقّحني جاري ضد سمومك قبل مجيئك.. فلتذهبْ أنتَ.. وثورتك.. وسِلميتك.. وتصالحك.. وديمقراطيتك.. ويساريتك غير الماركسية إلى الجحيم.. عشتُ ماركسيًّا ومتّ ماركسيًّا وأرقُدُ في مقبرة ماركسيةٍ ويوم الحشر اللهم احشرني مع الماركسيين، أما أنتَ فاذهبْ فتش من الآن على مقبرةٍ تَلُمَّكَ، أنت أصبحتَ إسلاميًّا في نظر الشيوعيين وستبقى دومًا شيوعيًّا في عيون الإسلاميين ولن تفوزَ، لا بالأولى ولا بالآخرة.
خاتمة: رجعتُ أجُرُّ أذيالَ الخيبةِ بعدما يئستُ من أصدقائي اليساريين، الحيّين منهم والميّتين.
راجعتُ نفسي وقلتُ لها: حقيقةً لم أستفدْ منها لكن هذا لا يمنع أنها ثورةٌ حتى ولو استفاد منها معنويًّا غير اليساريين، أليسوا بشرًا مثلنا تونسيين!
راجعتُ نفسي مرّةً أخرى وقلتُ لها ثانيةً: صحيح أنهم يختلفون عني فكريًّا، لكن أليسوا هم أيضًا بشرًا ومن حقهم أن يفكّروا، لا كما أشاءُ أنا بل كما هُمُ يشائون!
تعريف “العامل التونسي” (#): اسم جريدة شيوعية تونسية كانت تصدر في السبعينيات واسم حركة شيوعية. حركة ورثت حركة “برسبكتيف” الماركسية الفكرية الصافية الأولى، البنت شوّهت الأم وكانت أجهل خلف لأعلم سلف، نقلتها نقلةً غير نوعية وحوّلتها من ماركس أنجلس روزا لينين إلى ماو وستالين. حركة ستالينية-ماوية هي أم كل الأحزاب الشيوعية التونسية التي تأسست بعد الاستقلال باستثناء الحزب الشيوعي التونسي الذي تأسس قبل الاستقلال سنة 1934 (PCT). الجريدة كانت تُطبع في فرنسا على ما أظن وتوزَّعُ سرًّا في تونس وللشيوعيين أسرار لا يعلمها إلا البوليس. قرأتُ منها بعض الأعداد وأذكر عددًا كان يُوزَّع بكثافة في الحوض المنجمي، عدد مخصّص، لا لعمال المناجم، بل مخصّص للخلاف بين ستالين وتروسكي (زعيمان شيوعيان “تونسيان” لو لم تخُنّي الذاكرة مثل الدغباجي وبن سديرة؟).

إمضاء مواطن العالَم
“أنا عند الإسلاميين شيوعي وعند الشيوعيين إسلامي! لأن المفكر الحر يستحيل تصنيفه..” المفكر الإيراني الإسلامي الحر علي شريعتي، صديق الفيلسوف الفرنسي اليساري الملحد جان بول سارتر الذي قال: “لو أجبرتُ يومًا على اختيارِ دينٍ، لاخترتُ دينَ صديقي علي شريعتي”.
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ، لا أراهُ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ سياسيًّا كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
“النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ” محمد كشكار
“المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ” فوكو
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأحد 24 مارس 2019.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock