مقالات

بيت الحكمة أم بيت الحمق والسفاهة ؟

أبو يعرب المرزوقي
جيد أن يغضب الكثير من النخبة التونسية الحريصين على تراث تونس بسبب ما حدث من عدوان على رمز من رموزه حتى لو تعلق بمرحلة البايات التي تبقى مع ذلك من تاريخ تونس بحلوه ومره. فهذا من علامات الوعي التراثي المستحب بل والضروري لتواصل الذاكرة الوطنية.
لكني أعجب من سكوتهم على ما هو أخطر ألف مرة من هذا العدوان ليس على معلم يمكن أن يرمم بل على الشروط التي تجعل المجمع مجمع بمعنى رمز ما يبدع شعب من علوم وآداب وفنون وكذلك مآثر سياسية وخلقية هي عين كيانه الرمزي وأن يكون القيمون عليها ممن له بهذا الكيان إيمان ويكنون له التقدير الذي يستحقه. ولن أتكلم على المواقف التي يمكن أن تكون جدالية مثل المواقف من الإسلام أو من تراث حضارته ذات الدلالة الدينية. سأكتفي بما له دلالة فلسفية وعلمية.
سأذكر مثالين من ثقافة أم الكثير ممن قد يدافعون عما يحصل في تونس: هل يمكن أن يكون شخص في فرنسا قابلا لأن ينتخبه أعضاء الأكاديمية رئيسا لها إذا كان يعتبر ديكارت مثلا حمارا ويظن أنه تمكن مع احدى طالباته من القضاء على أسطورة فولتار ودون الكلام على رؤاه الأخرى التي لا تقل طرافة و”تقدمية” وتنويرا من هذين الحكمين ؟
لا شك أن الجميع يرون ذلك مستحيلا في فرنسا. وهم محقون لكن ذلك أكثر من الممكن في تونس وبانتخاب حر للأكادييمين التونسيين الغر الميامين: فرئيسها يعتبر ابن رشد حمارا وقد قال ذلك مرتين واحدة في ربيع القيروان -والشهود ما زالوا أحياء- والثانية في بيت الحكمة خلال محاضرة ألقاها زميل حول فلسفة ابن رشد فعلق رئيسها متهما إياه بكونه سلفيا ودغمائيا متخلفا ولو قال ذلك في الغزالي الذي اعتبرته إحدى طالباته كذلك داعشيا لفهمت.
لكن الأدهى من ذلك كله هو دعواه أنه مع إحدى طالباته قد قضى على أسطورة ابن خلدون وهذا أيضا له شهود وهم ما زالوا أحياء كذلك. ولا أحد من الأكاديميين الذين صوتوا له يجهلون هذه الحقائق لكنهم يعتبرون دوره في معركتهم “التنويرية” يشفع له بأن يعتبر ابن رشد حمارا ومتخلفا وبأن يظن أنه في حجم ابن خلدون فيقضي على أسطورته.
وأخيرا فما حصل في واجهة بيت الحكمة مادي وهو شاهد ولا يحتاج إلى شهود.
وكل ذلك يبقى دون أغرب الغرائب: فالرجل ترشح مع هشام جعيط لرئاسة بيت الحكمة فسقط جعيط ونجح هو لأن الأكاديميين لم يكن معيارهم الجدارة العلمية بل “النسب” الايدلويولجي. ونجاحه كان ساحقا: حصل على أربع أضعاف مع حصل عليه جعيط وكذلك على أربعة أضعاف مع ما حصل عليه ابن سلامة الوزير الذي أنشا بيت الحكمة. من نلوم؟ طبعا أعضاء بيت الحكمة الذين انتخبوه ذلك أنهم لم ينتخبوا من يمثل ما يمكن أن تفتخر به تونس بل من ينبغي أن تستعار به لأنهم فضلوا الايديولوجيا الحمقى والسفاهة على العلم الرصين والنباهة. ويمكن أيضا أن ألوم نفسي لعلتين لأن لي دورا في ما حصل:
1. لأني تصورت خلال وضع القانون الاساسي لبيت الحكمة في شكلها بعد الثورة أن النخبة الجامعية يمكن أن تصبح ديموقراطية باعتبار القيمة العلمية والمستوى الأكاديمي بعد ثورة شعبية قد تكون أعادت إليهم الرشد. وهو خطأ أول. وكان يمكن تجنبه بمجرد الابقاء على نظام التعيين الذي كان سائدا قبل إصلاح النص المنظم لبيت الحكمة وترقيتها لتصبح مؤسسة أكاديمة ويصبح رئيسها في رتبة كاتب دولة.
2. لأني أبقيت على القائمة التي كانت موجودة -ثقة في من ترأسوها سابقا- لأني صدقت أن الثورة تجب ما قبلها ويمكن أن تراجع المافيات التي كانت تسيس كل شيء فتتعظ بتجربة ما آل إليه وضع االجامعة التي “مفيزوها” وحولوها إلى اقطاعيات فتحافظ على الاقل على القيم الأكادمية في مؤسسة ذات دور رمزي من المفروض أن يتعالى على السياسة السياسوية ويسعى إلى القيم العليا فلا تفضل الشلايك على العلماء لما يتقدم مثل رئيسها الحالي أمام رئيسها الذي رشحناه وزير الثقافة وأنا قبله وعينه السيد رئيس الحكومة ليس لأنه منتسب إلى حزب من الترويكا بل لأنه أفضل من يمكن أن يمثل واجهة تونس الثقافية. وقد فعل لأن تونس حصلت على جائزتين دولتين خلال رئاسته يبذرهما الرئيس الحالي في ما يسميه ترميما وهو تهديم.
لكن لعلنا كنا مثاليين. ومع ذلك فلست يائسا من أن الامور ستتغير إذا وجدت سلطة سياسية حازمة لا تترك الحبل على الغارب للمفسدين لعلل إيديولوجية.
وإذا كان رئيس الدولة قد تكلم على فقدان تونس لرجال دولة فليس ذلك في السياسة فحسب بل وأيضا في الثقافة وفي كل المجالات. وإذا كان فعلا صادقا في ما يقول ولا يعرض برئيس الحكومة وإذا كان رئيس الحكومة فعلا رجل دولة وليس كما وصفه رئيس الدولة في تعريضه إذ المقصود بكلام الرئيس هو رئيس الحكومة فعليهما على الأقل أن يبدآ فيحولا دون تخريب رموز الدولة الثقافية والحضارية بل وقيم الشعب فلا يواصلا مساندة أحد مخربي مؤسساتها الذي اتبعوه خاصة في محاولة ملئها بحثالته ليبقى فيها مدى الحياة رئيسا.
فالأكاديمية مخمسة الأقسام. وإذن فلتكن رئاستها على الأقل دورية لئلا تبقى في قسم واحد رغم أني انتسب إلى نفس القسم مع الرئيس الحالي والسابق أي قسم العلوم الإسلامية. والمفروض أن يعاقب على تهديم واجهة المؤسسة بالعزل فضلا عن استبهامه ابن رشد وابن خلدون.
الاكاديمية تمثل هوية الشعب ورمز الدولة. فلا يمكن لمن يخلط بين مضع الإيديولوجيا السطحية لخرافة التحديث أن يكون رئيسا لمجمع بلاده وهو يحقر من ابن رشد وابن خلدون في حين أنه لا يساوي قلامة من ظفر أي منهما.

المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ”بيت الحكمة”

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock