مقالات

الجزائر.. بداية الربيع واستئنافه الحاسم

أبو يعرب المرزوقي
ما يجري من ترد الخدمات الصحية والأمنية والإعلامية والسياسية ومن مآس لا ينبغي أن يعتبر هو الداء. فما هو إلا أعراض داءين عميقين لا يريد أحد التعرض لهما لأن الكلام فيهما يعني الإشارة بالسبابة للعلل التي بالانطلاق منها يمكن وصف الدواء. وقد بلغنا آخر مراحل الطب: ضرورة الكي اللحم المتعفن لتطهير بدن الأمة من العفن بنار الثورة الباردة.
واللحم المتعفن هو مافياتان أولاهما بيدها السلطة السياسية بنوعيها حكما ومعارضة والثانية السلطة النقابية بنوعيها عملا وأرباب عمل. وهذا هو المشكل. فالمافيتان تتصارعان على تقاسم المزايا لكنهما متحدتان ضد الشعب الذي يستمدون مزاياهم من نهب رزقه وحرمانه من حقوقه والخدمات المترتبة عليها.
والداء أعمق حتى من ذلك: فوراء المافيتين في الداخل مافياتان في الخارج تحميانهما من كل محاولة شعبية للتحرر منهما. فما يجري في المافية السياسية علامته أن تعدد الاحزاب -عدتهم بعدة نواب الشعب 217- لا يمكن أن يعبر عن عناية بأمر الشعب بل هي “حوانيت” صنعة لعرض خدمات على المافية الممولة.
والمافية الممولة بالإضافة إلى التي في الداخل خمسة خارجية: أنظمة الثورة العربية المضادة ذراعا الاستعمار أي إيران وإسرائيل ثم الاستعمار المؤيد للثلاثة أي روسيا وأمريكا وبعض المحاولات الأوروبية ممن يتوهم أصحابها أنهم ما زالوا أصحاب امبراطورية فيعترون أنفسهم أوصياء على مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وجل سكانها مسلمون أيا كان عرقهم.
وها نحن نرى مرة ثانية عودة الربيع العربي إلى منطلقه الاول الذي هو ليس تونس بل الجزائر منذ نهايات العقد الثامن وخلال كل العقد التاسع من القرن الماضي حيث تم تجريب الطريقة التي استعملتها هذه المافيات للقضاء على الثورة وطبقت في ليبيا ومصر وسوريا والعراق ويحاولون في تونس منذ عقد.
لم أكن اعلم أن السبسي لما عين في السنة الاولى من الربيع في تونس كان تعيينه بمؤامرة نظمها الشابي وقائد المافيات في تونس -شهادة أحد وزراء السبسي في تلك المرحلة-. وهذه المعلومة تؤكد أن الرجل الذي داهن الشارع وادعى خدمة الثورة كان يزرع الألغام لإفشالها. لكنه فشل فشلا ذريعا ولله الحمد: تفتت حزبه ولم يعد محاطا إلا بعوانس تونس وأغبياءها.
صحيح أن صمود الثورة -وخاصة بعدها الإسلامي لأن البقية باستثناء قلة قليلة- كان التنافس على الحكم قد جعلها صماء بكماء عمياء لا تعقل فتحالفت حتى مع الشيطان لاستئصال المنافس عليه رغم علمها أن الثورة لا يمكن أن تنجح من دونه بسبب قربه من ثقافة الشعب وتنظيمه وتعامله العقلاني المرن.
ذلك أني إلى الآن لم أستطع أن أفهم كيف يمكن لمن يدعي الاشتراكية (الحقوق الاجتماعية) والقومية (الحقوق الثقافية) أن يعادي حركة إسلامية تسعى إلى التحديث المعقول وتطالب بالحقوق السياسية (الحريات) تصبح عدوهم الألد في حين أنه من المفروض أن يكونوا حلفاءها ويشاركوها في تحقيق أهداف الثورة.
وما حيرني حقا ولم أجد له تفسيرا رغم كل محاولات لدعوتهم للحوار مع الإسلاميين هو وحدة الموقف اليساري والقومي ضد الإسلاميين ليس في تونس وحدها بل في كل بلاد العرب والمسلمين. ولا يمكن تفسير ذلك بموقفهم من الدين عامة لأنهم جميعا تقريبا يعادون الإسلام دون أن يعادوا الصفوية لا الصهيونية.
فلا يوجد قومي معاد لإيران رغم أنها تحتل قطري القومية التي يدعون الانتساب إليها -العراق وسوريا- ولا يوجد يساري معاد لإسرائيل رغم أنها تحتل فلسطين التي يدعون حمايتها بكذبة رفض التطبيع وهم أول المطبعين مبدئيا وليس حتى ظرفيا. إيران وإسرائيل يتأسسان على خرافات يدعونها دينية.
وإذن فالعداء لا علاقة له بالدين بل هو عداء للديموقراطية التي ليس لهم أدنى حظ في الوصول بها إلى الحكم الذي هو غايتهم بسبب عدائهم لثقافة الشعب بصرف النظر عن الدين حتى وإن كان الدين هو العامل الغالب على هذه الثقافة. والدليل أنهم لا يعادون الفلكلوري من الدين مثل الزوايا والدروشة.
ما يقومون به من مبادرات تبدو معادية للإسلام ليس القصد منها شيئا آخر غير تقديم علامات الولاء لأعرافهم الذين يستمدون منهم السند في معركة يعلمون أنها خاسرة من دون هذا السند. لكني أعدهم بأنها ستكون أخسر به وخاصة بعد أن بدأت الموجة الثانية من الثورة وهي ستقتلع كل الحركيين من الجذور.
والموجة الثانية عادت إلى منطلق الموجة الأولى التي لم يستطع أعداء تحرر شعوب الأمة التغلب عليها إلا بعد حرب أهلية طويلة دامت عقدا كاملا في الجزائر وجربوا ما ظنوه قد نجح في القضاء عليها بنصيحة من عميل الاستعمار حسنين هيكل وكبير الدجالين من صحفيي العرب فإذا يهم يعجلون بالموجة الثانية.
والشيء الثابت أن ما يجري حاليا في الجزائر سيكون أقوى مما جرى في حرب التحرير إن حاولوا معها مرة أخرى ما حاولوه مع الموجة الأولـى في نهايات القرن الماضي: شباب الجيش والأمن الجزائريين ليسوا مثل عملاء فرنسا في المرة السابقة إنهم مع الشارع وثورة شعبهم. فما رأيته في حركة الشارع هو التآخي العجيب بين الأمن والشباب المتظاهر بسلمية وتنظيم عفويين لا نظير لهما.
والشيء الثابت أن الموجة الثانية لن يفلت منها بلدا الثورة المضادة أعني السعودية والإمارات. فشبابهما ليس أقل وعيا من شباب الربيع. والأمر الأكثر يقينا هو أن تجاوز الحد في تحدي الأمة من قبل الاستعمار وذراعيه في الإقليم رغم ما ترتب عليه من آلام صار هو المهماز الحقيقي لثورة الشباب. ولعل أبرز مثال هو سلوك ترومب خارجيا وعملاء إيران وإسرائيل داخليا. فسلوكهم لا يمكن أن يبقي حجة للمترددين في أي قطر من الإقليم.
من يصدق أنه يوجد اليوم سعودي واحد راض عما يدفعه أميرهم الأحمق من جزية لترومب وصهره وأخذ تلك الجزية من رزقه المباشر بما فرضه عليهم من إتاوة جعلهم فقراء في بلد يعد من أغنى بلاد العالم؟ ومن يصدق أنه بعد عملية المنشار والعدوان على الأخيار والأحرار والأعراض ستبقى لهم حجة للسكوت؟
الشيء الثابت أن الغضب بدأ يتجاوز النهي عن المنكر بالقلب بلغ مرحلة اللسان وإذا تواصل الأمر فسيصل إلى اليد. وبين الأولى والثانية مرحلة إجماع القلوب وبين الثانية والثالثة إجماع الالسن. وإذا حصل ذلك فإن الشارع هو منطلق النهي باليد إن لم ينصع العملاء ويستجيبوا لشعب الأحرار الغاضبين.
ومرة أخرى سيكون للمغرب العربي الأمازيغي الفضل في تحرر الأمة من الاستعمار غبر المباشر وعملائه كما كان له الفضل في تحريرها من الاستعمار المباشر وعملائه ورمزه هجرة “السوق السوداء” ومعهم “الحركيون” وما أكثرهم حاليا لأنهم هم المافيات وهم أدوات الاستعمار ودماه في دول الإقليم التي جعلوها محميات هم حراسها نيابة عنه.
والمغرب العربي الأمازيغي سيتواصل مع المشرق العربي التركي الكردي لتستعد الأمة بشعوبها الأربعة التي حافظت على قلب دار الإسلام خلال التصدي لمغول الشرق ولمغول الغرب (الصليبيات والاسترداديات والاستعماريات الاوروبية ثم الأمريكية) ومن ثم فدور الأمة سيستأنف لأن ما يجري حاليا من تركيا إلى الجزائر ليس محض صدف عديمة الدلالة.
وأعداء الأمة في الداخل والخارج يعلمون ذلك أكثر من الكثير من “خبراء” عقاب الزمان في الفضائيات العربية. لم يعد أعداؤنا يحللون ما يجري في الإقليم بخرافات القومية والعرقية والطائفية حتى وإن استعملوها أدوات للنفخ في الحرب الأهلية بين شعوبنا بل هم يعتبرون وحدة الأمة الروحية والتاريخية هي المحدد الحقيقي. ولذلك فهي المستهدفة. ولولا ذلك لما تآمروا على تركيا والربيع عامة والجزائر خاصة.
ما يجري في الجزائر وما يجري في تركيا له نفس الأعماق. إنه عودة قطبي الامة في المشرق وفي المغرب إلى المعين الذي لا ينضب مدده: محاولة نزع هوية الشعب الجزائري هي التي جعلته أكثر شعوب الاقليم محافظة عليها ونفس الأمر أيضا في تركيا. الاستئناف استرداد الذات واسترداد الدور. تلك هي الثورة.
ولأن المعادي للإسلام من الغرب يعلم ذلك ولأن ذراعيه في الإقليم يعلمان ذلك ولأن الأنظمة العميلة ونخبها الأكثر عمالة يعلمون ذلك صارت الحرب على الإسلام وحضارته. لكن الحرب التي تبدو حربا عليه من حيث هو دين هي حرب على ما يملكه أهله من ثروات ومواقع في العالم يريدون حيازتها بدلا من أهله. ولأنهم لم ينسوا تاريخه ودوره الكوني السابق يريدون منع الاستئناف.
هي حرب على الأحياز الخمسة التي تتقوم بها الأمم أي بـما فيها من ثروة وتراث. هي حرب على جغرافية دار الإسلام. وهي حرب على تاريخ المسلمين. وهي حرب على ثروة جغرافيته وموقعها الجيواستراتيجي. وهي حرب على تراث تاريخه ومنزلته الهستريواستراتيجية (مثل معركة الحرم الثلاثة). وهي حرب تجتمع كل أبعادها على أصلها التي هي فروعه: الإسلام قرآنا وسنة وقائدا وروحا ودورا كونيا.
وكل النخب التي لا تفهم ذلك ليست صادقة في كلامها على القيم والحقوق فضلا عن أن تكون نخبا سواء كانت تدعي الأصالة أو الحداثة. فلا إيران ولا إسرائيل تخفيان سعيهما لاسترداد تاريخ سابق على الإسلام. ولا روسيا أو أمريكا تريدان طوعا عودة المارد الإسلامي. ولا العملاء طموحهم يتجاوز الإخلاد إلى الأرض بأخلاق الكلاب التي لا تتوقف عن اللهيث الدنيوي.
لكن شباب الأمة بجنسيه سفه أحلام الأعداء بالأفعال ولم يعد يرضى بالأقوال. وبين أنه يملك الدواء ويدرك حقيقة الداء. استعاد طموح مؤسسي دولة الإسلام اجتهادا وجهادا. ولذلك فالزلزال بدأ يقتلع العملاء ويهزمهم في كل قطر ثم في الإقليم كله ثم في القضاء على الجرثومتين أو الذراعين ومعهم كل “حركيي” العمالة والخيانة وعدم الكفاءة وقمة الرداءة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock