مقالات

"يا أستاذ، هل يجوز الخروج على الحكّام" ؟!

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
كتب أحد أصدقاء صفحتي هذا السؤال في تعليق له، مضيفاً أنه (في حيرة من أمره، بين من يقول بالخروج على الحكام، وبين من يقول بحرمة الخروج عليهم). ولقد وعدتُ السائل بأن أجيب عن سؤاله هذا في مقالة، لبسط المسألة من جوانبها المتعدّدة، استجلاءً للمعنى.

والحقيقة لا صفة دينيّة لي تخوّل أن أجيب عن سؤال معقّد كهذا. لكنّني أتناول الموضوع من زاوية فكريّة وموضوعية أكاديميّة صرفة، ولا أعود فيها لأي نصّ دينيّ قصدا، إبعاداً لشبهة عدم الصفة للخوض في أمر يقتضي التخصّص. وما أشرحه ليس فتوى دينيّة، بل منهجيّة فكرية لتناول الموضوع.
كما ينبغي التنويه إلى أنه قد ثبت عند علماء الاجتماع أن الثورات في الشعوب – بصرف النظر عن دياناتها ومعتقداتها – تخضع لسنن محددة في العمران البشري، وليست مجرّد استجابة آلية لرأي فرد أو مجموعة من الأفراد. فمهما كانت الإجابة عن السؤوال صحيحة من ناحية النظر الديني، فحصول الخروج من عدمه لا يتم بناء على ذلك الجواب، بقدر ما يكون ترجمة لناموس من نواميس الفعل البشري الجماعي. وقد يتزامن الناموس مع رأي يطابقه، وقد يتخالف، ولكن السنن ماضية في البشر، لا تلتفت إلى رأي هذا أو اعتراض ذاك.
ثمّ أن هذا التساؤل شائع جدا في تاريخ المسلمين، ولازم هذا الموضوع الفقهَ الإسلاميَّ منذ عهد الخلفاء الرّاشدين -رضي الله عنهم جميعاً- إلى يوم النّاس هذا. وبمقتضى هذا السؤال خرجت الخوارج عن الإمام عليّ رضي الله عنه، وخرجت فرق كثيرة. ولقد فصّل العلماء الرّاسخون في العلم من ذوي الإرادة المستقلة عن الحكّام هذا الأمر في كتب ورسائل ومجلّدات، وذهب بعضهم ضحيّة الحكام تقتيلا وتنكيلا بسبب ذلك، ولَكن التساؤلات عند المسلمين تعود في كلّ عصر ومصر، وهذا له دلالة عميقة، يمكن أن نستشفّها من خلال العناصر المتفاعلة تالية الذكر.
أوّلا : ضبابيّة السّؤال تبهمُ الجواب !
إنّ سبباً رئيساً من أسباب تكرّر مثل هذا السؤال على مرّ الأزمان هو أن صيغة السّؤال ذاتها يشوبها الخلل. فقول القائل : (هل يجوز؟) معناه أن نعرف من هي الجهة التي تجيز وتمنع؟ وما شرعيتها في ذلك؟ ومن أعطاها حقّ الإجازة والمنع؟ وبأي شروط؟ وهل يقبل بها الجميع حكماً؟ وهذه الأسئلة المعقّدة جدّا كفيلة بالتوقف عن طرح السؤال أصلا. أما القول (الخروج على الحكّام)، فقول مطلق ومبهم جدّا. فالحكّام أنواع لا تدخل تحت حصر، ومن حكّمهم؟ وهم يحكمون من؟ وباسم من؟ وهم خاضعون لمن؟ وإن كانوا أحرارا فهم يحكمون من؟ وأين يحكمون؟ وبأي صيغة يتعاقدون مع محكوميهم؟ وهل يحكمون بالعدل أم مستبدون ظلمة متغلّبون بالعنف والإكراه؟ وما هي المآلات التي يمكن توقّعها عند الخروج عليهم؟ ومن يضمن سدّ الذّرائع؟ وهل ينتج عن الخروج فساد أعظم؟ ومذا عن الجهة التي تقدّر هذا الفساد وما أدوات تحليلها وما مصلحتها وما صفتها وهل لها طاعة من عوام النّاس وخواصّهم؟ فهذه مجرد أسئلة مبدئية لتقليب الأمر على وجوهه، تبيّن مدى غموض السّؤال مما يتطلّب جهدا عقليا خارقا لتفكيك المسألة وتوظيفها بشكل منسجم يقدّم المقصد الرّئيس الذي هو درء المفسدة، ويعبّد الطريق لتحقّق المقصد التابع الذي هو جلب المنفعة للعموم.
وللمساهمة في رفع الضبابية والإبهام عن هذا السّؤال، لا بدّ من إعادة النظر في صيغته، فيكون كالتالي مثلا : (ما هي شروط الخروج على الحكام المستبدّين، ومن يقدّر مصلحتها ومفسدتها؟). وعن طريق هذه الصيغة، يتم ربط الخروج بوجود الاستبداد والظلم والبغي والولاء للأعداء، فليس كل حاكم ينبغي الخروج عليه في المطلق، وليس كل مستبدّ يترجّح الخروج عليه في أي وقت ودون جهة ذات صفة تقدّر المخاطر والمحاذير!
ثانيا : خطر إحلال نوازل التديّن الفردي محلّ نوازل التديّن الجماعي
إن المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون في العهود المتأخرة، هي الخلل في الفهم والخلط والخبط بين ما هو من قبيل “نوازل الالتزام الفردي”، وما يعود بالنظر إلى “نوازل الالتزام الجماعي”. هذا الأمر جوهريّ للخروج من دوّامة السؤال المطروح أعلاه. فالخروج عن الحكام المستبدّين من عدمه، لا يعني الفرد في فرديّته فقط، بل يلزمه باعتباره جزءا من جماعة بشرية تعيش نازلة من النوازل. وعليه، أعتبر أن طرح هذا السؤال على المستوى الفردي هو خطأ دينيّ وعلميّ فاحش، والمضيّ في تطبيق نتائج السؤال، بالخروج أو عدم الخروج، هو خرق لمبدأ شمولية النظرة التي أسسها الإسلام وناضل من أجل تأسيسها في الوعي الجمعي للمسلمين. لا يمكن للأفراد طرح سؤال الخروج والعمل بفرديتهم بمقتضى الجواب، حتى لو كان من جهة ذات صفة دينية. والسبب في ذلك، أن نوازل الجماعة تعالجها الجماعة في جماعيتها، ولا يمكن للأفراد أن ينازعوا الجماعة البشرية وينتحلوا صفة الجماعة بمفردهم، والزعم بأنهم يمثلون “الإسلام الصحيح”. ولقد عانى المسلمون طويلا من هذا المنطق الأخرق الذي يضع الأمور في غير موضعها.
ولقد تسببت المجموعات الصغيرة من الأفراد في كوارث بالجملة جراء هذا الفهم المقلوب، آخرها ما أقدمت عليه منظمة “داعش” التي خرجت عن جميع الناس، حكاما ومحكومين، وأسست فهما خاصا بها بناء على فتاوى دينية قديمة، فاستخدم الأعداء منظمة داعش كمعول هدم لكل شيء، وبرعوا في تقتيل المسلمين وتخريب بلدانهم عبر التقاتل الداخلي بناء على هذا الخطأ الفاحش في التقدير عند الأتباع، وخبث القادة الكبار الذين يعلمون بلا ريب ما يقومون به عن دراية وإرادة، مساعدة للأعداء، وهو من نتائج إحلال النوازل الفردية محل المعالجة الجماعية والمضي في خيارات معزولة لا توافق عليها شرائح الأمة بتنوّعها.
ثالثا : مفسدة اتخاذ الفقه الفرداني بديلا عن الفقه الجماعي
اعتقد كثير من المسلمين – على وجه الخطأ – أن الفقه هو “إنتاج فرديّ” خالص قام به بعض الفقهاء الكبار باعتبارهم “أفرادا”. فنشأ من هذا الفهم الخاطئ سلوك معوجّ قوامه النجاة الفردية، والتحرر الفردي، والطهرانية الفردية، والتصوّر الفردي القائم على الاستقامة الفردية المحضة التي سيكون مآلها “دخول الجنة كأفراد” باعتبار الأعمال تعود في نهاية التحليل إلى جزاء أو عقاب فردي. وكان من نتائج هذا التصوّر القاصر أن عددا غفيرا من المسلمين انصرفوا إلى أشياء فردية خالصة في التديّن، وانسخلوا من كل التزام جماعيّ إذ لم يعد في فهمهم أي معنى للالتزام الجماعي، وكرّس ذلك عدد من الحكام وعدد من وعّاظ الحكام الدينيين الذين كانوا يصرّون إصرارا على مخاطبة “الفرد المسلم” بدل “الجماعة المسلمة”، فنتج تيار جارف له طابع التدين الفردي، ولكنه لا يؤمن بأي عمل أو إنجاز جماعي ولا يعتبر ذلك مجلبة للأجر، فترى الناس يزورون مكة مرارا وتكرارا لأداء فريضة الحج مثلا، لكنهم يرفضون المشاركة بذلك المال المخصص للحج المتكرّر في بناء مدرسة أو مختبر للبحوث العلمية، لأنهم لا يرون النفقة على المصلحة العامة مجلبة للثواب، فهم فردانيون في تصوّرهم عن التديّن.
ومن الأدلّة الدامغة على هذا الخطأ في الفهم، ما كان عليه كبار العلماء في فهمهم، فعمر بن الخطاب يرى أن بغلة تعثر في طريق في العراق تكون سببا في إثمه لأنه لم يعبّد لها الطريق. فهذا الصنف من الفهم هو في قمة المسؤولية الجماعية. كما أن خطاب القرآن الكريم وخطاب السنة النبوية كانا موجهين إلى المجموعة في جماعيتها أكثر من الأفراد في فرديتهم، وحتى سورة الفاتحة، يقرأ نصّها الفرد بصيغة الجماعة “اهدنا الصراط المستقيم”. كما أن الإمام مالك بن أنس لم يجد لكتابه سوى عنوان “الموطّأ” بمعنى : أن هذا الكتاب قد “واطأه عليه عشرات الفقهاء من المدينة” كما هو معروف. وحتى عالم الأصول الإمام أبو إسحاق الشاطبي، حين ألّف كتابا في الأصول، ظلّ يفكّر زمنا في تسميته، حتى رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم في منامه، فأرشده إلى تسميته ب “الموافقات”، بمعنى : البحث عن توافق المسلمين في جماعيتهم، ونبذ النوازع الفردية المعزولة. وكان العظماء من العلماء أحرص الناس على التوافق الجماعي حتى عدل أبو إدريس الشافعي عن بعض ما في مذهبه لما ارتحل إلى مصر، وعمل العالم المالكي أبو بكر بن العربي على جمع رأيه برأي مدارس أخرى تفعيلا لمسلك الجماعية في الفقه. والأمثلة في هذا الباب لا يحصيها إلا الله.
من هنا، فإن معرفة وجه الحق في باب الخروج على الحكام المستبدين يقتضي أن يبقى الفقه الإسلامي – كما كان دوما – في دائرة الفقه الجماعي لا الفقه الفردي، وأن يتأسس في المسلمين تقليد جديد يقطع مع الفهم المختلّ للفقه الفرداني، لأن النظر الجماعي للمسائل أوفق في إصابة وجه الحقّ، والابتعاد عن الشطط، والبقاء في دائرة الوسطية القرآنية.
رابعا : أصعب شيء ليس معرفة الحكم الشرعيّ، بل معرفة موضع تطبيقه ووقته
ولقد اعتقد كثيرون أن الصعوبة تكمن في معرفة حكم الشارع واستخلاصه من مصادره المقدّرة، بينما الحقيقة الدّامغة هي أن الصّعوبة لا تكمن في استخلاص الحكم بل في معرفة موضع تطبيقه ووقت تنزيله وتحمّل تبعات تفعيله. ولذلك، بالغ كثيرون في تضخيم الآثار هروبا من استحقاق التطبيق، وشنّع كثيرون الخروج على الحكّام بتعلّة المفسدة، وهم ينظرون إلى المفسدة الصغرى دون المفسدة الكبرى التي هي كون أولئك الحكام يضرون المصلحة العليا بولائهم للأعداء، فالمسألة تقديرية بامتياز، وفي هذا الخضم يمكن لكل شخص أن يقنعك بالشيء وعكسه، نظرا إلى كون المنطلقات في التحليل تختلف، والخلفيات والمآلات ليست في فهم الناس أمرا واحدا. ومن هنا، فإنني أعتقد شخصيا استحالة الوصول إلى حلول ذات طابع ديني إذا كان صاحب الحلّ الديني مرتبط في معاشه ونظره وتعليمه ومصالحه بالفساد المستشري في مختلف المفاصل الحيوية للشعوب والبلدان والدول والمؤسسات. كما لا يمكن حلّ المعضلات المستجدة بفقه قديم أو فهم سقيم قاصر، فاته الزمان وتجاوزه الإنسان. وإني من دعاة تأسيس مؤسسات فقهية جماعية مستقلة عن إرادة الحكام وضغط المحكومين، تراعي المصالح وتوازن الأمور وتقودها رؤية واحدة هي الذبّ عن المصلحة العامة المشتركة، ضد مصالح الأشخاص والأنظمة والجهات النافذة والأقليات المتساندة.
خامسا : علماء السّلاطين وتمييع الفقه الإسلامي والسقوط الأخلاقي المدوّي
عامل آخر من عوامل التعقيد بشأن مسألة الخروج عن الحكام الظلمة، أن المؤسسات الدينية الفقهية التقليدية وقع اختراقها وتهميشها وتوظيفها لدواع سياسية صرفة في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، ولا نكاد نجد اليوم مؤسسة دينية مستقلة القرار، باستثناء مؤسسات جديدة تحاول لملمة الوضع البائس.
وأمثلة ذلك لا تعدّ ولا تحصر : فمؤسسة الزيتونة الدينية التقليدية التي كانت قائمة في تونس تم تعطيلها وتهميشها واختراقها، وهي اليوم تحاول النهوض من جديد بعد عشرات السنين من الإبعاد والتهميش المنهجي. والمؤسسة الدينية الشيعية في إيران صارت مجرد صورة تبرّر -دينيا- للنظام الإيراني كل الأعمال التي يقوم بها، لأن النظام القومي الطائفي يحتاج إلى أيديولوجيا دينية لتسويق أعماله داخل إيران وخارجها. والمؤسسة الدينية الوهابية وصلت اليوم إلى وضع يرثى له من التوظيف السياسي الرخيص والتبرير لكل أعمال السياسة السعودية بما فيها التفريط في مصالح الأمة العليا، وربط علاقات مع الأعداء، وتأجيج الحروب الأهلية، وتبديد الثروات، كل ذلك يجد تبريرات دينية بائسة من طرف المؤسسة الدينية المحلية. ومؤسسة الفتوى والأزهر الشريف في مصر ليست أفضل حالا، فعلاوة عن التعامي عن الاستبداد والفساد والظلم وسجن عشرات الآلاف من خيرة ما أنجبت مصر، يصدر المفتي قرارات المضي في الإعدام للأبرياء، وكأنهم يوقّع على ذبح فراريج دجاج. ومؤسسات أخرى كثيرة في أنحاء أخرى من العالم الإسلامي صارت لا شيء تعمله غير تبرير فساد المفسدين والتعامي عن الواقع المرير الذي يعيشه الناس في كل مكان.
من هنا، فإن أغلب مؤسسات الفقه الإسلامي وقع اختراقها وتدجينها وتوظيفها سياسيا، بمفعول الواقع الحالي المتسم بغياب استقلالية القرار وتحكم القوى الأجنبية في مصائر الأمصار والمجتمعات، وانهارت القيمة الاعتبارية لتلك المؤسسات الدينية في أعين الناس، وتميّع الفقه، وصار أضحوكة ومثارا لتندّر المتندّرين، مما ينذر بسقوط أخلاقي كبير إن لم يتدارك المخلصون الأمور.
أخيرا، فخلاصة السؤال التالي : (ما هي شروط الخروج على الحكام المستبدّين، ومن يقدّر مصلحتها ومفسدتها؟)، تقدّر وفق الأبعاد الخمسة المتداخلة المذكورة أعلاه، وأن جواز الخروج من عدمه يفهم ويستقى ويستخلص من الحالة العامة التي نعيشها في هذا الزمان، وهي حالة ارتهان شاملة لإرادة قوى خارجية، وأن الخروج على المستبدين والعملاء يتم بشكل جماعي وسلميّ عبر رؤية عميقة مستحكمة، بعد تأمين البدائل وتذليل العراقيل.
فليس النجاح في حركات الشعوب عرضيّاً. وليس الفشل قدراً محتوماً. إنّه قانون ينتظر فهما، وفهم ينتظر آلة، وآلة تنتظر عملا. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
وعلى الله التكلان.
✍🏽 #بشير_العبيدي |رجب 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock