مقالات

النهضة… التوافق ضرورة التاريخ والتحالف مطلوب السياسة

نور الدين الختروشي
عندما صرح رئيس حركة النهضة ان خيار حكومة انتخابات قد يناقش بجدية اذا طرحته بقية الاطراف الوازنة في المشهد وألحت عليه، قامت الدنيا ولم تقعد، وسارع المتضررون من تحالف الحكم الجديد الى الرقص على طبول المستجد السعيد في تصعيد مفضوح لرغبة مكبوتة في فك الارتباط بين مونبليزير والقصبه. وذهبت أغلب التحاليل المكتوبة والمسموعة إلى أن النهضة بصدد العودة الى رشدها وكأنها لا ترشد إلا بين أحضان الباجي.
جاء بيان المكتب التنفيذي ليحسم الجدل، ويؤكد على تمسك الحركة بالاستقرار الحكومي وتحالفها الجديد /القديم مع الشاهد وكتلته التي تشكلت حوله حديثا.
لا عفويه في منطوق السياسة، ومن الطبيعي ان لا يستمع المتابع الجاد لمن برر تصريح الشيخ على أنه مجرد جملة عرضية لا تتعدى دلالتها حدود الفرضيات الممكنة في عالم السياسة. ومن المنطقي أن تهتز الساحه على وقع الاشارة المخاتلة للشيخ.
ورغم ان كاتب هذه السطور لا يشك لحظة في “ثبات” موقف حركة النهضة من حليفها الجديد وحرصها على الوصول الى محطة الانتخابات بحكومة الشاهد. فإن إشارة رئيسها لممكن التفاعل مع مقترح حكومة الانتخابات يعكس في الحقيقة الفلسفة التي تتعامل بها حركة النهضة مع عنوان التحالف ذاته كجملة في كتاب السياسة، وليس كصفحة من التاريخ كما كان الحال مع عنوان التوافق.
هنا صرة المعنى…
رئيس حركة النهضة وبقطع النظر عن قصدية اشارته الى ممكن الاشتغال على حكومة انتخابات، الاكيد ان جملة من الرسائل قد تداعت على أطراف تصريحه الذي يبدو في شكله غير رسمي ولا يعكس موقفا جديدا على ما جاء لاحقا في بيان المكتب التنفيذي للحركة.
اول التأويلات لاشارة الغنوشي لممكن الاشتغال على فكرة حكومة الانتخابات، تتصل بفكرة التحالف ذاتها وكيفية تمثلها والتعامل معها عند النهضة. فقد سقطت اغلب التحاليل في خلط منهجي بين عنوان التوافق والتحالف، هذا في حين لا يمكن فهم تصريح الشيخ في تقديري إلا على خط مسافة الفصل بين التوافق والتحالف.
معلوم لدى القاصي والداني أن توافق الشيخين ذات يوم بباريس كان الرافعة الرمزية والسياسية التي حافظت على التجربة التونسية ومسارها السياسي من الانزلاق في أخاديد التهارج الاهلي والتحارب بالمتاح. فالتوافق كان ضرورة تاريخية تتصل بإدارة مرحلة فارقة في تاريخنا السياسي الحديث، فهو اختراع تونسي طريف بقدر ما هو عميق جوهره تحويل التناقض الحدي بين طرفين على ارض السياسة الى اختلاف وتباين تقديري بين مشروعين وطنيين أدعيا الى وقت قريب ان انجاز أحدهما لا يكتمل إلا بإقصاء الثاني وفسخه من المشهد. فقد استمد مشروع الإسلاميين السياسي شرعيته من نضاله المواضب ضد المدرسة اللائكية التي احتكرت المعنى الوطني منذ الاستقلال الى صبيحة 14 جانفي 2011، ومارست كل أشكال العنف الرمزي بالدعاية السوداء ضد الإسلاميين والتصفية الجسدية المباشرة لوجودهم اسما ورسما.
وكان لثقل ذاكرة التنافي حضورا كثيفا في رسم استراتيجيات التعامل مع الزمن السياسي الجديد الذي انتجته الثورة، وكادت ان تنحرف بالمسار الوطني من أفق التعايش الى مدار التحارب الاهلي لولا لطف الله اولا وحسن تقدير العواقب من المعنيين. فكان التوافق استجابة لضرورة التاريخ وليس لاكراهات السياسة. فضرورة التاريخ تتصل في عمومها بالحفاظ على أسس الاجتماع السياسي ذاته، اما إكراهات السياسة فتتصل دائما بديناميكية المصلحة وتحسين شرط الموجود السياسي.
تقديري ان قراءة تصريح رئيس حركة النهضة الذي اثار جدلا لم ينته، يمكن فهمه من زاوية مختلفة اذا قرأناه في مسافة الفصل بين المنهجي بين عنوان التوافق بدالته التاريخية، وعنوان التحالف بدلالته السياسية.
تحضرني هنا جملة لدولوز يقول فيها “إن المقارنة في علم الاجتماع منبعا خالدا للوهم” وتقديري أن كل الخطأ في تأويل تصريح الغنوشي مصدره المقارنة المتسرعة بين توافق الشيخ َمع الباجي وتحالف النهضة مع الشاهد.
تحالف النهضة مع الشاهد كان استجابة لحاجة سياسية معلنة، كثفها عنوان الاستقرار الحكومي هذا في حين كان التوافق بين الشيخين حاجة تاريخية ماثلة كثفها عنوان السلم الأهلي. وهو ما يعني ان تصريح الشيخ كان رسالة علنية واضحة لحليفه الجديد تحذره من نزوعه نحو الاطمئنان الى انه ورقة الضرورة الجديدة بالنسبة للنهضة، هذا في حين ان الشاهد بالنسبة للنهضة ليس سوى خيارا تقديريا يتصل بتحرك ميزان القوة في الخارطة السياسية وتجاذباتها المتحولة. فالموقف من الشاهد سياسي وديناميكي متغير تستغرقه معاني المصلحة الحزبية أساسا ورهانات اللحظة السياسية بعيدا عن ثقل الخوف على المسار، والخوف من ممكن انهياره، كما كانت الحالة عندما شربت النهضة من مرِّ كأس التوافق ذات يوم في غرفة باريسية مغلقة. فالضرورة في خيارات النهضة تتصل دائما بعنوان الحفاظ على المسار، ولا ضرورة عندها في ادارته. والشاهد فاصل من اليوميات، وليس عنوانا لمرحلة كما كان التوافق مع الباجي، وهذا يعني ان الموقف من الشاهد تقديري وديناميكي، ويمكن ان يتغير بتغير الاولويات او ضغط اليوميات.
هذه في تقديري اهم وأعمق رسالة وجهها الغنوشي لحليفه في القصبة خاصة بعد ما بدت عليه من فائض الثقة بنفسه بعد زيارة باريس الشهيرة.
الرسالة الثانية كانت لساكن قرطاج الجريح من أثر الضربة القاصمة التي وجهها له ابنه العاق من القصبة وجوهرها ان التحالف مع غريمه علاوة على انه مجرد تقدير سياسي لا علاقة له بصراع الوجود بين شقوق النداء وان كان اثره المباشر اضعاف موقف نجله وربما نهاية سياسية حزينة لبقايا الحزب الذي حقق معجزة الانتصار في انتخابات 2014.
فمعركة الإطاحة بالشاهد التي ادارها القصر على انها ام المعارك ليست بذلك الحجم، ولا بذلك العمق والامتداد عند النهضة، وان فشل الباجي في الإطاحة بصنيعته، لا يعني بالنسبة لها حسما لحرب، بل مجرد خطأ تقديري وارد في إدارة اليوميات، ولا يُقرأ من زاوية الهزيمة والنصر في حرب وجود.. فالقصر الذي يعيش فشله في تغيير الشاهد على انه نهاية كارثية لحرب، يذكره الغنوشي ان الشاهد اصغر من ان يكون مدار وموضوع حرب وجود.
أقدر وقد أخطأ ان الخلط بين عنوان التوافق الذي كان لحساب التاريخ وعنوان التحالف الذي كان لحساب السياسة هو الذي طوح بالتأويلات لتصريح الغنوشي بعيدا عن الحقيقة فكل القراءات التي ركزت على ممكن تراجع الغنوشي عن دعمه للشاهد والعودة الى حجر الرئيس لم تفهم او لا تريد ان تفهم العقل السياسي النهضوي الذي لن تنتهي صدماته ومفاجآته عند هذا التصريح او ذاك الموقف بل ستتواصل مادام المسلك السياسي للنهضة يحاكم دائما من خلال زاوية التوجس من وهم الازدواجية والبحث في النوايا وما تحت السطور ووراء الاكمة.
أزمة الثقة بين النهضة وبقية مكونات المشهد وإن تقلصت مفاعيلها فإنها مازالت قائمة، ومادامت قائمة سيبقى خطاب النهضة وأدائها يقرأ في لائحة الاتهام وحدود المحاكمة المعيارية والسياسية.
هنا صداع المستقبل القريب.
الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock