تدوينات تونسية

في الجريمة والعقاب …

علي المسعودي
ثمّة تحوّل ذهني رهيب يحدث اليوم، فنحن نغادر تدريجيّا مفهوم الإنسانيّة كخصائص مشتركة للنوع البشري، إلى مفهوم الكينونة الايديولوجية المغلقة على ذاتها والموغلة في نرجسيتها، كينونة متوحّشة ومعادية ولها عماء الأفعى المجلجلة !.. أن تقول عن فلان أنه إخواني فهذا توصيف وتصنيف كاف وشاف وسيكون من باب التناقض المنطقي أن تضيف له صفة الانسان !.. وأن تقول أن فلانا يساريّ فهذا أيضا وصف كاف، ولكن يمكن لك أن تضيف له عبارة متمّمة هي: حيوان !.
لقد فقدت الجرائم ضد الانسانية خلال هذا التحوّل ثقلها اللاأخلاقي، بعد أن ضاعت صفة الانسانية نفسها، ولم يعد لها وجود خارج معبد جسدنا وفكرنا ومعتقدنا..
في الشرق القديم، ثمة أفكار مُلهِمة. وأحدها الإيمان بأن الفعل فكرة، وأن الواقع الحقيقي هو ما يعتمل في أذهاننا، وما عداه فقط ظلال.. قد يُصادف أن تقتل شخصا بحسن نيّة، وهذا لا يُعدّ جريمة أو قتلا، ولا يمحو فضيلة النيّة.. وقد يصادف أن تُضْمِر القتل ثم تُخْطِى الفعل.. فهذه جريمة تامة الأركان حتى وإن غاب القتيل.. أنت قاتل بالفكرة وهذه هي الإدانة الحقيقية.
لو وضعنا مجلّة جزائية وفقا لهذه الشروط، لطالت مخالب هذه المجلة ثلاثة أرباع التونسيين، ولشنق القضاة أنفسهم بعد ذلك طبقا لنفس الاجراءات والقانون !.
أعتقد أن هذه المقدمة ضرورية لأقول التالي: العقل هو علبة باندورا حيث تسكن كل الشياطين، والحكمة ليست في ترك هذه العلبة تامّة الغلق، بل في فتحها.. لأن شياطين الفكر، مثل حيتان المحيط، تنمو في ظلمة الذهن وكهوفه، وتموت مع مصافحة الهواء !..
•••
تابعت بعض ردود الأفعال على أحكام الاعدام السيساوية في أرض مصر.. فوجدتها ردودا تفوح منها رائحة الدم، وتقوم برهانا على سابقية إضمار لجرائم قتل تُعوِزها الظروف المواتية، ردودا تتمنى أن يذهب إلى جحيم الموت كل “الآخرين” حتى وإن كانوا إخوة، أبناء عمومة، أو بيننا وبينهم وشائج دم.. !
هذه اللفظة “الآخرون” يبدأ معناها ضيقا ثم يأخذ في الاتساع إلى أن يطابق المدلول الحرفي للعبارة على مذهب الظاهريين.. فهم يطلبون القتل لكل مغتصب وكل إرهابي أدين بقتل أو لم يُدن، ثم للإخوانيين، معتدليهم والمتطرفين، ثم من يلتقي معهم في الفكرة أو الطريق عرضا.. وينتهي الأمر أخيرا برغبة سيكوباتية في قتل كل الآخرين، وربما تعداهم إلى الآخر الذي هو نحن لأن الحالة السريرية هي حالة فصام واستلاب.. !
القتل هو ثقافة، والذين يهددون الآخرين بالقتل دفاعا عن الحياة هم أكثر الناس تشبعا بهذه الثقافة !.
القتل مهما كانت المبررات هو جريمة، والفرق بين هذا التبرير وذاك هو فاصلة.. فهي جميعا تبريرات.. أحيانا يقدمها عقل مريض وأحيانا تقدمها مجلة اجراءات جزائية لمُلْك عضوض..
القتل اقصاء مُعزّز بالعنف، نوع من الانتحار.. فالآخر ليس سوى صورتنا في حال انعكاس..
القتل تفكيرا هو القتل تنفيذا.. ولعل أولهما خطيئة والثاني مجرد قتل بالخطإ !..
الإرهابي الذي يسكن جبل الشعانبي هو نفسه من يسكن جبل عرباط… وهو نفسه من يقرأ لروسو ومونتسكيو، ومن شرفته في الفضاء الافتراضي يُرسل تحيّته إلى فرق الاعدامات.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock