مقالات

لماذا لا يمكن لتونس أن تنجو من السيطرة الفرنسية ؟

نور الدين العلوي
يقول لي تونسي حصّل تعليمًا عاليًا “لا يمكننا الخروج من علاقة خاصة مع فرنسا”، فاسأله لماذا؟ فيقول واثقًا من سنده العلمي: “فرنسا ستذبحنا”، فاسأله إذًا نحن لسنا مختارين؟ فيقول: “نحن أحرار ونختار حلفاءنا”، ولا ينتبه للتناقض فاسأله وماذا لو وسعنا دائرة أحلافنا في عالم معولم؟ فيكتفي بالقول “فرنسا أفضل من غيرها”. في هذه الحالة يجب التوقف عن الحديث، نحن إزاء حالة من استعمار ذاتي يقبل فيها الشخص أن يعيش في وضع العبد الرافض للحرية كما فعل العبيد الذين حررهم نص أبراهم لنكولن ذات يوم.
مثل هذا الشخص كثير في تونس وهو السبب الرئيسي في استمرار فرنسا في تحديد مصير تونس بأقل الأكلاف السياسية والعسكرية، فالجماعة المتصدرة للشأن العام في تونس بمختلف أطيافها لا تجرؤ على التفكير المجرد في إعادة بناء علاقة سياسية واقتصادية مع فرنسا على أسس استقلالية، فلماذا يتخذ التونسيون أمام فرنسا وضع المضروب قبل وقوع الضرب على ظهره؟
شيء من التاريخ
إلى بداية القرن الـ19 كانت تونس تموّل فرنسا بالقمح والحبوب المختلفة، وفي نهاية القرن الـ19 كانت فرنسا قد احتلت تونس ووضعت يدها على أهم مزارع القمح وحقوق الزيتون، ذلك الانقلاب لا يزال يحكم العلاقة بين البلدين، ويوجد ألف سبب لذلك منها انهيار الحامي العثماني، لكن قبل ذلك خرّب الفساد دولة البايات ففتح الباب على استعمار لم ينته بعد لأن الحقيقة الفاجعة أن الفساد لم ينته بعد ولذلك نجد من يرى أن الخروج على فرنسا أمر يؤدي إلى الموت المحقق، وليست زيارة رئيس حكومة تونس إلى فرنسا في شهر فبراير/شباط 2019 إلا خطوة في طريق الخضوع للحامي الفرنسي الحريص على استمرار الفساد الذي يضمن له دور الحامي.
لكن الأمر يتجاوز العلاقات الاقتصادية إلى عمق ثقافي يبرر العلاقة ويمنع مناقشتها في أفق تحرري، ويمكننا القول بسهولة إن فرنسا صنعت لها وعاءً ثقافيًا تونسيًا يخدم مصالحها السياسية والاقتصادية بغلاف ثقافي.
تعرف التونسيون على باقة السلوك الحداثي عبر الاختلاط بالفرنسيين، وكانت حالة الانبهار كبيرة منذ البداية، فانتقلت رؤية الفرنسيين للعالم إلى التونسيين فتبنوا رؤية مستعمرهم وتخلوا عن هوية عميقة كانت تجعل منهم أندادًا وأسيادًا على البحر المتوسط، وسلوك الدونية مر عبر تقليد التونسي للفرنسي فتشكلت شخصية تابعة لا ترى نفسها إلا في وضع الملحق الذليل، فالتونسي يذوق الحياة بلسان فرنسي، وأفعل التفضيل عنده مرجعها فرنسي، ويغلق هذا عليه كل أفق في فكر مختلف وفي رؤية متجددة للعالم.
تؤطر هذه الرؤية الثقافية باقي العلاقة وتنتج حالة من الكسل الروحي والفكري ومن ثم الاقتصادي، مثال ذلك أن تقول لتونسي لماذا لا تميل إلى السيارة اليابانية فهي أفضل من الفرنسية في السوق العالمية؟ فيرد بسرعة لا واعية إذا فسدت لن أجد لها ميكانيكًا لإصلاحها، فتقول له كما تعلم الميكانيكي إصلاح السيارة الفرنسية فإنه يمكن أن يتعلم إصلاح اليابانية، فيرتبك.
صورة التغيير مربكة لفكر كسول ولشخصية تابعة، اختصر فرنسا وثن لا يمكن لتونسيين كثيرين التحرر منه يقول لسان حالهم تقريبًا “إنا وجدنا آباءنا مع فرنسا وإنا على إثرهم سائرون”، والتناقض المثير للشفقة أن الفرنسي يعتزّ بثورته التي هي حركة نقد جبارة للفكر العقدي (الديني المتكلس) لكن التونسي جعل فرنسا وثنًا مخالفًا كل روح الثورة الفرنسية، هذه الروح الكسولة الجبانة أفرغت الثورة التونسية من ميزتها وكسرت أفقها فجعلت من حكومات ما بعد الثورة استمرارًا ذليلاً لما كان قبلها.
إذلال الثورة التونسية على يد نخبتها المتفرنسة
حتى الساعات الأخيرة من حكم بن علي كانت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال إليوت ماري تعرض عليه الأسلحة والدعم البشري لإخماد الثورة التونسية، فلما تيقنت من انتصار الشارع الأعزل، باعت بن علي وأظهرت محبة الثورة، فحرفت اسمها من ثورة الفقراء إلى ثورة الياسمين محاولة تمكين نخبة سياسية ربتها في كواليس مخابرتها من الحكم وكان لها ذلك.
فوجد التونسيون أنفسهم تحت حكومة من أسماء غريبة لم يسمعوا عنها أبدًا، لكن ذلك لم يكن إلا بداية مرحلة حكم جديدة، لقد أفلحت فرنسا في جلب جائزة نوبل للسلام لفريق من التونسيين قدم لفرنسا أجل الخدمات، إذ منع حكومة ذات هوى إسلامي من الاستمرار في الحكم، وسيذكر التونسيون طويلاً صورة الرباعي الحائز على نوبل وهو يجلس في ممر ضيق مطأطئ الرؤوس أمام رئيس فرنسا الذي تقبل الشكر قبل الرئيس التونسي.
جزء كبير من النخبة السياسية يدخل مجال الاهتمام بالشأن العام معتمدًا فقط على ولائه واستعداداه لخدمة مصالح فرنسا في تونس وهو على يقين أن ذلك طريق مختصر ومضمون نحو السلطة، هذه طريق فتحها بورقيبة منذ البداية وسار فيها كثيرون من بعده وما بن علي إلا نسخة من بورقيبة.
تغيب عني هنا كواليس كثيرة في عالم الاقتصاد ولكني أرى النتائج في الشارع، فالتونسي محروم تقريبًا من السيارة الآسيوية ومحروم من التكنولوجيا التي تنتج في بقاع كثيرة من العالم، ولا يمكنه ترويج زيته (وكل منتج زراعي) إلا عبر وسيط فرنسي، ولا يعرف كثير من مستهلكي نبيذ بوردو الفرنسي الشهير أنه نبيذ تونسي وضعت على زجاجته ورقة فرنسية.
توجد نخبة تونسية تضمن ذلك لفرنسا مقابل مساعدات سياسية فرنسية في الداخل والخارج، هذه النخبة نفسها هي التي غطت تصريح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قبل سقوطه انتخابيًا عندما قال “لقد أمرت بتنفيذ أربعة اغتيالات في شمال إفريقيا”، نعرف فقط أن حدث تونس أربعة اغتيالات سياسية حرفت مسار ثورتها إلى الأبد.
فرنسا احتلت العقل التونسي
العقول التونسية المتفرنسة هي التي تضمن مصالح فرنسا الاقتصادية، فإذا ثار الشعب وطلب الحرية سيطرت عليه هذه النخبة المحافظة وألزمته الصمت أو النطق بالفرنسية كأن ليس له لسان عربي، أو كأن بقية ألسنة العالم ممنوعة عليه.
لا يتوقف الأمر على الرؤساء (المنصب الأول) فوزير التربية والتعليم العالي ووزير الثقافة وكل مسؤول على علاقة بما هو ثقافي وتربوي يرسل رسائل إلى فرنسا من خلال عمله على أمل استدامة المنصب، وهذه بوابات صناعة العقول في تونس التي خلفت الشخص الذي بدأت المقال باستعادة حواري معه في نقاش مثقف.
إن الترجمة تقريبًا جريمة لأنها تمهد للقطع مع النص الفرنسي المرجعي والحديث عن تغيير اللغة الأجنبية في المدارس جريمة لا تغتفر، بل إننا نشهد ميلاد مدارس خاصة تعلم الأطفال الفرنسية فتمتهن العربية بل تفتح اليوم الدراسي بنشيد المارسياز بديلاً عن النشيد الوطني التونسي.
من هنا دخلت فرنسا وبهذا تبقى، ولهذا يذهب رئيس الحكومة ليقدم طقوس الولاء والطاعة ويعلن في خطاب (عفوي) أنه يحرس حدود أوروبا الشرقية، فالمهم أن ينال الرضا الذي يسمح له بالحكم في تونس.
لقد أكدت زيارة يوسف الشاهد الأخيرة ذلك فيما بقية النخب تنازعه الولاء والطاعة لفرنسا، وسيحكم وسيكون لفرنسا مجال حركة واسع جدًا في تونس في السنوات القادمة، متى نخرج من تحت المظلة الفرنسية؟ ثورة 2010 لم تتقدم على هذه الطريق.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock