نعيمة بنت عمّي.. ما تموتش، وما تخلّنيش وحدي
الطيب الجوادي
في شهر أوسّو، هناك في ريفنا الكافي البعيد، ينخفض إيقاع الحياة إلى حدّه الأدنى وتهمد الحركة منذ الساعة التاسعة صباحا، يعود الرعاة بقطعانهم إلى زرائبها ويلتجئ الناس إلى منازلهم المبنية بالطوب هربا من القيظ الشديد، فيقيلون بعض الوقت أو يشغلون أنفسهم بالحديث في غياب كلّ وسائل الترفيه المعروفة اليوم.
ولم نكن نحن الأطفال لنحفل بحالة الطوارئ غير المعلنة، فنمارس ألعابنا المختلفة غير عابئين بالشّمس التي كانت تسكب فوق رؤسنا رصاصا مذابا يلهب أجسادنا الصغيرة ويسبب لنا الحروق ويصبغ جلودنا بسمرة كالحة، أذكر أننا كنّا وقتها نلعب الغميضة فنتوارى تحت الأشجار المحيطة بالبيوت وخلف المنازل، حين صرخ المنصف ولد عمّي بأعلى صوته:
– نعيمة داخت، نعيمة داخت..
هرعنا إليه، فإذا هي ممددة على الأرض وقد غمرها العرق وفقدت الوعي تماما، حركتها وصرخت فيها دون جدوى فجرى المنصف يخبر الكبار، فجاؤا لا يلوون على شيء، مرّرت يمة راحتها على جبينها ورقبتها فصرخت: “هاي تشعل بالسخانة، نعيمة ضربتها “البڤلة” وراحت تخمش وجهها وتصوّت، حملها والدها بين ذراعيه وأسرع بها إلى داخل “المعمّرة” في حين جاءت أمها بالماء البارد من البئر وراحت تمرر الكمادات على جبينها ورقبتها، “شلّطها” أبوها وأسرعت إحدى الجارات تعدّ “اللبخة” الكفيلة بالتخفيض من درجة الحرارة، لم يفكّر أحد في حملها للمستشفى الذي يبعد عنّا مسافة طويلة.
غمغم أبي :
“هي بين يدين ربّي، كان عندها عمر تو تعيش”
سألتُ يمّة باكيا وأنا أتمسك بملحفتها
– يمة نعيمة باش تموت ؟
مسّدت على شعري بحنوّ وتمتمت:
– معاها ربّي ورجال الحمادة، حالتها ما تعجبش.
رجّت كلماتها أغواري العميقة، أسقط بيدي، ضاق العالم من حولي، همى دمع غزير من أقصى الرّوح،
جريت إلى محفظتي وأخرجت مصحفي المدرسي الذي يقتصر على جزء عمّ، رحت أقرأ السّور بحرارة في سرّي
تناهى إليّ صوت من داخل الغرفة
– نعيمة حلّت عينيها، تركت المصحف وهرعت إليها، تسربت بين الحاضرين حتى وصلت إليها، أنمت راحتيها بين كفيّ ووشوشت لها.
– نعيمة بنت عمّي.. ما تموتش، وما تخلّنيش وحدي، ما نلقى مع اشكون نلعب..
ضجّت الغرفة بالضحك وتغامز البعض، وطفرت الدموع من عيون البعض الآخر.
شُفيت نعيمة، واستطعت أن أرسّخ في اعتقادها أن الله قد استجاب لدعائي حين قرأت من المصحف، مع أنني وفي غمرة خوفي وارتباكي قد قرأت من سورة المسد !