تدوينات تونسية

قول في الحبّ عن الحبّ في يوم عيده… بعد عيده

نور الدين الغيلوفي
(كلُّ من أحبَّك لك فاعتمد على محبّته)
ابن عربي
(الحبُّ ذَوق ولا تُدرى حقيقته)
ابن عربي
عيد.. وحُبٌّ.. ولا حَبَّ تقتات منع العصافير العاكفة على الحُبّ.. قدر عصافير الحُبّ أن تصوم عن الحَبِّ حتّى تموت.. جوعا…
العيد والحبّ.. مفردتان تتنافسان الغواية.. وحين تجتمعان ينشأ من لقائهما كيمياء يفهمها أهلُ العشق وأهلُ التوق للعشق.. حتّى أولئك الذين لم يذوقوه ولم يعرفوا بلواه..
قديما قال سيّد الشعراء أبو الطيّب:
وعذلتُ أهل العشق حتّى ذُقته *** فعجبت كيف يموت من لا يعشق
وكان قد سبّق في قوله الأرقَ المتراكبَ والجوى المزيدَ والعبرةَ المترقرقةَ لوازمَ للعشق.. وقتها يكون الحبّ شوقا وولها وفقدا وأسى.. حتّى الموت.. تجتمع العبارات كلُّها في ذات واحدة لتعجن من خليطها عاشقا تسير بمواجده الركبان ويعجز عن فكّ طلاسمه الرهبان.. يذوي حتّى يهوي كنجم ابتعله ثقب أسود…
إذن.. فاعذورا أهل العشق إن هم افتكوّا لهم من السّنة يوما جعلوه للحبّ موعدا.. واحسبوه من ثأر اللاحقين للسابقين.. لقد كان الحبّ عند السابقين لحظة ترمي سهما بقلب وتفرّ تُلَاحِقُها المهجة إلى غير عَوْدٍ.. فيكون العاشق مثل عابد أضاع قبلته.. ويتحوّل المُحِبُّ إلى بيت خرِب لا ساكن له.. ولا سكون.. يقضّي العمر يهفو غلى الساكن والسكون.. لذلك قالوا: “ويل للشجيّ من الخليّ”.. ولم يكن بوسع من يعشق أن يرغم الحبّ على العَوْدِ..
ولكنّ قوم الضفّة الأخرى بعبقرياتهم وجسارتهم أرغموه على العَوْدِ حتّى صار لهم به عيدٌ.. وصلوه بيوم من السنة.. ثمّ ما لبث أن ضاع (يضوع ضوعا) عيدُهم في الأنحاء..
أليس في يوم العيد راحة؟ كذلك العشّاق في يوم عيدهم يخلدون إلى الراحة من رحلتهم الشاقة باتّجاه غاية كلّما أوغلوا في الطريق إليها باعدت مسافةَ بينها وبينهم.. حتّى كأنّ الأعمار لا تتسّع لبلوغ قوارب العشّاق مآربَهم..
العِشْقُ قِبْلَةٌ ضائعة وقُبْلَةٌ مؤجَّلة.. ونفخة روح لا تعلَق.. فإذا علقت تلاشت كجناح فراشة جمالها في الطيران.. فإذا وقعت كانت نهايتها…
فلمَ نرفض، إذن، عيدا لآخرنا؟
ألأنّه لم يكن لأوّلنا؟
وإذا حُرمه الأوّلون فلِمَ نحرمه الآخرين؟
ولكن ما هو الحبّ؟
علّمنا الكبير ابن حزم الأندلسيّ أنّ الحبّ داءٌ عيَاءٌ وعِلّةٌ مشتهاةٌ…
صفات علقتها صفاتها.. وصفٌ على وصفِ.. ولا موصوف يُدرَكُ
الحبّ نبتة غُرست في الخلق الأوّل..
سقتها النفس الواحدة..
حريق شبّ من لقاء بين قادحين..
كان لا بدّ للحريق أن يشبّ..
ولولا اللهيب لما تكاثر الخلق ولما تمدّدت الطبيعة وانفرجت أسارير الكون..
تنفرج أساريره في النهار بضوء الشمس وفي الليل بضَمّ الحُبّ.. وكلّما كان العناق دُعيت شمس النهار إلى تأجيل طلوعها.. هناك سرّ الخلق وتشكيل الحقّ..
وهج العشق كافٍ لتخلّق ما يختمر في رحم يلتحف الليلَ…
الكون بأسره كالفرن.. والحبُّ نار به تضطرم.. تنضج.. وتحرق.. ومن لا يصيبه من نارها يخرج إلى الوجود نيّئا.. كلا وجود…
الحبّ معنى إنسانيّ رفيع وقيمة جامعة راقية ومشترَك كونيّ بامتياز.. وزراعته ضرورية لمقاومة الحرب.. وما أحوج أرض العرب لهذا الزرع دواء لغرس الغباء…
الحروب تنشأ بسبب التنازع.. والتنازع يأتي من التنافس.. والتنافس يولد في أرضنا بلا نزاهة.. وفي سياق ذلك تروج تجارة الكره.. أمّا الحبّ فلا يكون إلّا من نكران الذات وتقسيمها في ذوات كثيرة والتخلّي، طواعية، عن أسباب النزاع وفكّ الاشتباك…
لماذا نرفض عيدا للحبّ؟
أليس لأنّنا لا نعترف بالحبّ؟
ولأنّنا لا نعرفه؟
لقد سجنّا في الحرام فاتّهمناه واتّهمنا الاحتفاء به…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock