مقالات

حكومة تونس الفرنسية

فتحي الشوك
نشر سفير فرنسا بتونس اوليفيي بوافر دارفور على صفحته الرسمية ترحيبا برئيس الحكومة التونسية الفرنسية (chef du gouvernement tunisien de France) ليستدرك ويغيّرها، لا تبدو أنّها هفوة في الرّقن أو خطأ في لغة متمكّن منها ويبشّر بها، وقد يسعى إلى تمكينها بكلّ الوسائل برغم تراجعها في كلّ الأماكن.
ما أفصح عنه في لحظة صدق هو تعرية لحقيقة يريد البعض أن يطمسها بغربال، وقد تكون حركة متعمّدة كرسالة مضمونة الوصول لأطراف متعدّدة وإمعانا في الإذلال.
مقيم عام فوق الرتبة:
يعتبر سفير فرنسا الحالي أشهر شخصية تنشط على الأراضي التّونسية، إذ لم تخل مناسبة صغيرة أو كبيرة إلاّ وشهدت طلعته البهية وكأنّه شمس تشرق على الجميع أو ملح طعام لا يغيب عن أيّة مائدة، هكذا صار التوّنسي يخشى يوما أن يجده في بيت نومه تحت السّرير أو في الدّولاب أو في المطبخ حين يفتح ثلّاجته.
هو اسم على مسمّى: الزيتونة فلفل آرفور وهي زيتونة هجينة مستوردة معدّلة جينيا مغروسة في أرض جرّدوها من زيتونها الطّبيعي الضّارب جذوره في أعماقها منذ آلاف السّنين.
لا يمكن اعتبار السفير الفرنسي سفيرا عاديا ولا حتّى مقيما عاما بمواصفات ما عرفته تونس خلال فترة الحماية منذ 1881 وأقلّ ما يقال عنه أنّه الحاكم بأمره أو المسؤول الكبير كما أشار إلى ذلك رئيس دولتنا المفدّى حفظه الله ورعاه ومنحه من الصحّة ما يجعله يواصل مسيرة دولة الاستقلال المجيدة في خدمة فرنسا العتيدة.
ما اقترفه المقيم العام فوق الرتبة لم يكن خطأ ولم يكن اعتباطيا، فليس مثله من يسقط في ذلك، هو تعمّد بسابق إصرار وترصّد تذكير البعض في الدّاخل والخارج بأنّ تونس خاصّة فرنسية خالصة، حكومة تونس”بتاع” فرنسا، وتونس بطمّ طميمها بأرضها وجوفها، بسمائها وبحرها، بالمحكومين وبمن يحكم هي ملكيّة خاصّة فرنسية، مسجّلة في دفتر خان، تسلّمت العقد نهائيا كعربون لكرسي منح لزعيم “الاستقلال” بورقيبة ولا يمكن لأحد أن يجلس عليه إلاّ بمباركتها وبعد أن يجدّد البيعة.
هي إجابة كافية ووافية على مناوشات ايطاليا المستفزّة الّتي أثارت محظورا يراد له أن يكون خطّا أحمر.
يقول وزير ايطالي بأنّ 75 في المائة من ثروات مستعمرات فرنسا التاريخية مازالت تحت سيطرتها وتصرّفها وأظنّه لطّف النّسبة قليلا اذ لا يمكننا أن نتجاوز مرتبة “الخمّاسة” في أحسن الأحوال.
ايطاليا وفرنسا يتناوشان على نسب ميراثهما الوضعي ويكفينا نحن أن نناقش نسب المواريث السّماوية بعد أن عالجنا والحمد لله كلّ مشاكلنا الأرضية وسيكون بفضل مبعوث العناية الربّانية لكلّ امرأة نفس نصيب الرّجل من الفقر والجهل والمديونية، أمّا نصيبنا من ثرواتنا الطّبيعية فخطّ أحمر ومصير من يقترب منه فإقصاء أو تهميش أو ربّما تغييب بسكتة قلبية.
ما كتبه السّفير هو باختزال: أنّ تونس فرنسية، كانت كذلك وهي ما تزال وستبقى برأيه لأجيال.
من الاستعمار المباشر إلى الاستيطان والاستحمار:
كان استعمارا مباشرا ذو كلفة مرتفعة، تحكمه ضوابط تفرض على الدّولة المستعمرة بعض الواجبات ومسؤولية سياسية وأخلاقية تجاه مستعمراتها ليتجوّل إلى استيطان للعقول واستحمار واستبلاه، كانت فرنسا تقبض وتدفع فصارت تقبض بدون أن تدفع، كان عقد نكاح “شرعي” صار عرفيا مع امتلاكها للعصمة حصريّا.
ما أروعه من زواج متعة يحقّق الإشباع ولا أمل فيه للمنكوح في طلاق أو انفصال أو حتّى التّقاضي لأجل إهمال العيال.
عن أيّ سيادة تتحدّثون بربّكم وعن أيّ نصر وأيّ نضال؟ نضال بالبيجاما والبدلات البيضاء الأنيقة في غرف نزل “الاحتلال”؟ وأيّ نصر هدا إلاّ إذا كان نجاحا بعد تدرّب ومشقّة، في امتطاء صهوة جواد لتؤخذ له صورا تعلق في الأذهان؟
ليستمرّ الدّجل وليتواصل الاستبلاه والضّحك على الذّقون في مسرحية ركيكة وسرديّة سخيفة لبطولات وهمية وتحرير أوطان.
فرنسا اليعقوبية الّتي لم تتخلّ يوما عن عقلية الهيمنة الاستعمارية لا تمزح مع من يمسّ مصالحها المصيرية والاستراتيجية.
وهي حين تستشعر ملامح لصحوة حقيقية أو محاولات جدّية لتصحيح الوجهة وتعديل البوصلة فيكفيها أن تطلق كلابها المدرّبة في كلّ اتّجاه للنّهش والنّباح وستجد تفريخاتها الورمية المنتشرة في كلّ مكان خير معين لها، وستنطلق الجوقة في العزف لتمارس كلّ أنواع الإلهاء والتشويش والتهريج،: صراعات هوويّة، إشاعات، خطاب كراهية ولم لا ان اضطرّ الأمر اغتيالات سياسية أو بعض العمليّات الإرهابيّة.
ستجد حرّاس المعبد، مطبّلين وجمهور من الرّاقصين مصطفّين متوثّبين يدافعون عن المحتلّ تماما كما استعملهم سابقا في حروبه حينما كان يضعهم في الصّفوف الأولى ليتلقّوا ضربات المدافع الأولى.
وستجد “نخبة” نكبة وستّين “مؤرّخا” أو يزيد: كلّ واحد منهم يعتقد أنّه وحيد زمانه وفريد، استفزّتهم سهام سهام فاجتمعوا على عجل ليرتّلوا سردية الماضي المجيد.
صدق أوليفيي بما كتب وهو الكذوب وأظهر في لحظة منفلتة بعض الجدّ وهو اللّعوب.
كان صريحا هذه المرّة ليحرج من مازالوا إلى يومنا هذا يزيّفون التّاريخ و يغيّبون الوعي و يستبلهون العقول بالحديث عن كذبة الاستقلال.
والحقيقة أنّ كلّ أوطاننا من المحيط إلى الخليج هي محتلّة ومنتهكة بدرجات متفاوتة وبصور مختلفة أوضحها تلك الّتي في فلسطين والّتي يبدو أنّها لن تتحرّر إلا متى تحرّرنا.. ذلك أمر أكيد.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock