تدوينات تونسية

رقصة الجِرَار

حسن الصغير
في سبعينيات القرن الماضي كانت أعراسنا بسيطة جدا فبحكم أن جل الزيجات تكون بين الاقارب والاجوار في القرية تقتصر حفلات الزفاف على مأدبة غداء كبيرة يوم الزفاف وسهرات قبل الحفل وبعده بأيام تسمى النجمة ويسهر في اهل القرية على وقع غناء بدوي متوارث منذ أجيال وتكون الأهازيج بأصوات نساء معروفات بعذوبة الصوت وقوته فتمزق أصواتهن سكون الليل ويتردد صداها في جبال القرية وأوديتها حتى تسمع على بعد كيلومترات عديدة. ولم نكن نعرف الفرق الموسيقية التقليدية منها والحديثة.
وصادف في ربيع إحدى السنوات أن تزوج عمي المعروف في القرية بكثرة سفراته وكثرة أصدقائه من مختلف جهات البلاد.
وقبل العرس الذي تجندت له العائلة بكبارها وصغارها سمعت أنه تم استدعاء فرقة موسيقية من الشمال موطن زوجة عمي يقولون إنها تضم راقصا بالجِرَار.
سألت بعض الاهل عن معنى الرقص بالجرار فقالوا لي إن الرجل يظل يرقص على أنغام الطبل وفوق رأسه عدة الجِرَار ولا تقع ولا تنكسر.
لا أخفيكم أني لم أصدق القصة أبدا فقد سبق أن رأيت أمي وبعض نساء القرية يحملن على رؤوسهن الغرابيل أو الأوعية المملوءة زيتونا أو لوزا لكنهن كن يمسكنها بأيديهن حتى لا تقع لكني لم أر أبدا إنسانا يرقص وفوق رأسه جِرار دون أن يمسكها.
وفي اليوم الموعود حلت الفرقة الموسيقية المكونة من ضاربي طبل وعازف للزكرة وراقص الجِرَار المنتظر. وفي المساء بدأت الحفلة وتحلق في الساحة خلق كثير فقد جلبت أخبار الفرقة كل أهل القرية تقريبا وبعد مقدمة قصيرة من العزف دخل الراقص الحلقة وبدأ يتمايل على وقع دقات الطبل ثم انحنى وتناول جرة وضعها على رأسه فوق شاشيته الحمراء وواصل رقصته كأن شيئا لم يكن.
وبعد فترة رأيت رجلا يمسك جرة ثانية ويصعد على كرسي وينتظر مرور الراقص ليضعها فوق الجرة الأولى وتكررت العملية مرة أخرى.
وحين رأيت الجرار الثلاثة تستوي على رأس الراقص الذي يتلوى كالأفعوان أصابني رعب شديد وتأكدت أن الجن أو الشياطين تمسك الجرار وتمنعها من السقوط.
انتهى الحفل وعدنا إلى بيتنا وصورة الراقص لا تفارقني حتى صممت بعد أيام على تجربة الأمر لاطلع على السر عن كثب.
لكن واجهتني مشكلة وهي أني لم أجد في بيتنا إلا جرة واحدة يمكن استعارتها دون تفطن العائلة ثم حلت المشكلة جزئيا عندما وافق صديقي ابن الجيران -وهو ممن حضروا الحفل أيضا- على جلب جرة أخرى من منزلهم، وفي عصر أحد الأيام سقنا قطيع الأغنام إلى بطن الوادي بمأمن عن أنظار الفضوليين وسرعان ما بدأت الحفلة.
لكن لاحت بعض العراقيل فقد اكتشفنا تنافرا صارخا بين الجرتين إذ كانت الأولى صفراء قصيرة والثانية طويلة وبيضاء اللون إلا أن ذلك لم يفت في عضدنا مستفيدين من أن حفلتنا تدور دون حضور الجمهور.
وضعت الجرة الصغيرة على رأسي ثم حاولت المشي بها تمهيدا للرقص لكنها ارتعشت ومالت بشدة فأمسكتها بكلتا يدي وحاولت تثبيتها دون جدوى.
وبعد عدة محاولات يائسة تذكرت أن جرار الراقص كتبت عليها عبارة “توكلت على الله” فبدا لي أن سر الثبات يكمن في تلك الكلمات لذلك أخذت بعض الحشائش الخضراء وكتبت الكلمات الثلاث بخط معوج ثم حاولت مجددا دون جدوى.
وبعد فترة اقترح صديقي أن يتولى هو الدربكة فربما يساعدني الإيقاع على الثبات تحت الجرة المترنحة.
وبعد بحث وعناء لم نجد إلا صفيحة بلاستيكية كنا نحمل فيها بعض الماء استعملها صديقي كطبل صغير لكن خرج صوت الإيقاع نشازا متنافرا بغير نظام يشبه وقع البرد على أسطح منازل القرية خلال عواصف الخريف.
ورغم ذلك بعثت في الدقات شيئا من الطرب فحاولت التمايل والانحاء تحت الجرة المتلكئة على وقع النغمات النشاز لكن المحاولة باءت بالفشل الذريع وسقطت الجرة البيضاء ومن ألطاف الله أنها لم تنكسر.
عندها حاول صديقي تشجيعي فقال لي إن الجرار لا تثبت على رؤوس الأطفال وربما علي تجربة الأمر عندما أكبر.
ورغم أن تبريره أعجبني ورفع عني بعض الحرج إلا أني كبرت بعد ذلك ولم أجرب رقصة الجرار إلى اليوم!!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock