مقالات

معارك طواحين الهواء !

فتحي الشوك
لم تنته المعركة، هو هدوء حذر يسبق عاصفة جديدة، جولة أخرى لصراع عبثي وقوده كينونات تائهة وأوطان من ورق سريع الالتهاب، حقل ألغام وقنابل انشطارية قد تنفجر في أيّة لحظة وأخرى فراغية صوتية تطلق من حين لآخر مع ثالثة حرارية ضوئية تخطف الأبصار، قرع على الطّبول وصخب غوغاء يثير الصّداع ومزيد من سكب الزّيت على النّار، استقطاب وتحفزّ واستنفار ودعوات للاصطفاف: إمّا معي أو ضدّي، ليس لك خيار! فهل قدّر لنا أن نكون حطبا لمعاركهم أم ترانا بإمكاننا النّجاة بأنفسنا وتصحيح المسار؟
معركة مدرسة “الرقاب”
أسالت قضيّة مدرسة “الرقاب” القرآنية الكثير من الحبر الملوّث بالدّم والنّفط، فتونس كمهد لثورات الرّبيع العربي كانت ولا زالت هدفا لسهام الرّماة من الدّاخل والخارج، من مستعمر خارجي لا يسمح لها البتّة بالخروج من بيت طاعته إلى مستبدّ داخلي سقط رأسه وبقي جسمه، وهو في حالة إعادة تشكّل، تسقيه روافد عدّة من نهر الاستبداد العربي عساه ينبت له رأس جديد يعيد القديم ويمحي كلّ أمل في يوم جديد. قضيّة مدرسة “الرقاب” ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها خلال السّنوات الأخيرة الّتي تلت فرار الطّاغية بن علي معارك وغزوات كثيرة، فمن غزوة قصر العبدلّية، إلى “ملحمة” السّفارة الأمريكية، إلى إمارة سجنان، إلى حرق الزّوايا الصّوفية مرورا باستحضار الإرهاب من حين لآخر حسب الطّلب وكأنّ له عقل مدبّر أو أجندة سياسية، لتتعدّد الأشكال الفنّية وتشترك في نفس المضمون ونفس الأبطال وليصوّر نفس الصّراع: صراع هووي وجودي بين نقيضين، أحدهما نمط حداثي تقدّمي مستنير مفحم بالحياة، يحتكر وطنا يعتقد أنّه من بناه ولا يحقّ العيش فيه لسواه، والآخر وحش ظلامي رجعيّ ،ينشر الموت ويدمّر الأوطان ويتكلّم باسم الله.
هي معارك وهميّة عبثيّة تخضع للمعادلات الصفرية، تثار من حين لآخر تزامنا مع إحدى المحطّات الانتخابية وعوض البرامج والمشاريع أو حين يعتقد أنّ البوصلة قد اتّجهت لتمسّ الاستحقاقات الحقيقية أو برزت بعض عوارض الصّحوة والوعي ليتمّ الحقن بجرعة تغييب إضافية. فمدرسة “الرقاب” القرآنية الّتي حوّلت إلى قضيّة رأي عام، لتبحّ فيها الأصوات وتجفّ فيها الأقلام ويستنفر فيها الجميع، عامّة، ساسة وإعلام ليست إلاّ مثال على ما يراد لنا من تشتّت للجهد، احتراب وصدام.
هي مدرسة انتصبت فوضويا مستغلّة هشاشة الوضع ومناخات الحرّية، صدر في شأنها ثلاثة قرارات بالغلق بين 2011 و2018 لعدم توفّر أدنى شروط الصحّة والنّظافة والسّلامة ولعدم احترامها لحرمة وكرامة الطّفل، لينفّذ القرار أخيرا بعد بثّ تقرير تلفزيوني لصحفي له سوابق في الاختلاق والفبركة، وكأنّها صحوة مفاجئة لضمير دولة اعتقد الجميع أنّه مات!
والمدرسة معروفة ولا تحتاج لجهد بحث واستقصاء والطّرف الّذي يديرها، المتبنّي للفكر السّلفي الوهّابي، لم يخرج مرّة من جلباب النّظام والسّلطان وهو نتاج خالص من رحم الاستبداد، تكوّن على أعينه ليكون عيونه، كان يجوب البلاد بكلّ حرّية ويستثنى من الملاحقات والحصار تماما كما صوفية الشّعوذة الشعبويّة، مظهران متاضادّان كان المستبدّ يمنحهما للإسلام كرخصة حصريّة للجولان. صور مشوّهة لإسلام ميّت غريب في الزّمان، غير قابل للحياة وسريعا ما يلفظه المكان في مواجهة للإسلام الحيّ ذي المشروع الحضاري القابل للتحقّق، النّابع من الأرض والمتعاطي معها.
جميل أن يستفيق ضمير الدّولة لتكتشف أنّ من محاور اهتمامها الطّفولة وبناء الإنسان والأجمل منه أن تستمرّ الصّحوة وأن تعمّم الهبّة ولا تمارس بانتقائية، وأن تتمّ مراجعة ذاتية لمسار أكثر من نصف قرن مارست فيها جميع صنوف الإذلال والتّهميش والتّفقير والتّجهيل والتّخريب الممنهج للإنسان. فتلك المدرسة لم تكن إلاّ تجلّ لفشل منظومة لم تنتج سوى الفشل وهي نتيجة مباشرة لسياسات تجفيف المنابع المتّبعة منذ عقود وللتدمير المبرمج للعمليّة التعليمية والتربوية عبر إفراغها من روحها وترذيل رموزها.
معارك طواحين الهواء!
سنة 2017 انقطع مبكّرا عن الدّراسة قرابة المائة ألف طفل في تونس، لفظتهم مدراس عمومية صارت خاوية على عروشها ليتوزّع 80 في المائة منهم بين الشّارع والاستغلال والانحراف والمخدّرات، مئات الانتهاكات الّتي سجّلت في حقّ الطّفولة وعلى أيدي بعض من تصدّر المشهد ليذرف دموع التّماسيح على الطّفولة المغتصبة. 41 طفلا اغتصبهم فرنسي سنة 2014 ليطوى الملفّ على عجل وكأنّ شيئا لم يقع لأجل عيون فرنسا.
وزيادة على هؤلاء الأطفال الّذين تلفظهم المؤسّسة التعليمة الرّسمية وترميهم في جبّ الضّياع لتنهشهم الضّباع، فإنّها كذلك تخرّج لنا آلافا آخرين تعوزهم الكفاءة ويسكنهم الفراغ لينضمّوا إلى طوابير المعطّلين، فتونس صارت تحتلّ المراتب الأخيرة في جودة التّعليم وفي نسب التّنمية لتتخلّف عن دول أفريقية كانت في الماضي تسبقهم بأشواط.
وعوض المسارعة بالتشخيص والمراجعة ومعالجة أسباب وجذور الأزمة، من تهميش وتفاوت جهوي وتفقير وتجهيل وفساد لم يستثن أحدا، يستحضر البعض من حرّاس معبد الحداثة المزيّفة معارك هوويّة وهميّة يديرونها بحنكة ودهاء محدّدين قواعد الاشتباك، فمن جهة يمارسون ضغطا على ما يسمّى بالمدارس القرآنية، مصوّرين إيّاها كمداجن لتفريخ الإرهاب، ومن جهة أخرى يطلقون عنان الشّواذ ويطبّعون مع الرّذيلة والفساد.
استثارات مدروسة بعناية وتوقيت مختار بدراية وردود فعل غريزية بافلوفية تفعّل وتوجّه عن بعد قصد الإلهاء عن استحقاقات اللّحظة. ليتيه الجمهور بين صراخ “الوطن يحتضر” وعويل “الإسلام في خطر” ويدعى إلى أن ينخرط في معارك عبثية ومعادلات صفرية لا تبني أوطانا ولا تسترجع إسلاما. معارك مصطنعة بين غلاة متطرّفين، متموقعين على طرفي النّقيض لكنّهما يتفاعلان ويتراضعان ويمنحان لبعضهما المبرّر الوجودي، أمّا وقودها وضحيّتها فدوما هو الإنسان.
لا شكّ في وجود غلاة من المتطرّفين العلمانيين المصابين بحساسية مرضية تجاه ماله علاقة بالدّين ويقلقهم القرآن والآذان وحتّى الأحرف العربية وهم لا يتركون فرصة لضرب المشترك المقدّس وتدنيسه أو محاولة نفيه وطرده، بيد أنّ بعض من يدّعون الدّفاع عن ذاك المشترك لا يقلّون عنهم ضررا وتطرّفا. كان من الممكن أن نستثمر ذلك المشترك المقدّس ايجابيّا ونوظّفه كرابطة جامعة ونستلهم منه القوّة والطّاقة في الإضافة والفعل والبناء غير أن قلّة شاذّة اختارت أن تتصادم معه في محاولة لطرده، لتجيبها أخرى بمحاولة احتكاره وحصره.
وبين هذين الوجهين لعملة الجهل الواحدة، “المقدّس” منها والمؤدلج لا بدّ من أن نمتنع عن الزجّ بأنفسنا في معاركهم الوهمية، معارك التّفاهات الكبرى وطواحين الهواء الدّونكيشوتية وأن نتوجّه مباشرة نحو معاركنا الحقيقية، فبها يبنى الإنسان وتصان الأوطان وبها يحفظ القرآن.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock