مقالات

لِمَ لا نتعلّم من أثيوبيا ؟ 

فتحي الشوك
تصدّرت أثيوبيا الدّول الإفريقية في نسب النّمو سنة 2017 (8.5%) حسب آخر تقرير للبنك الدّولي متقدّمة على الكوت ديفوار و روندا في حين تحتلّ الدّول العربية ومنها تونس ذيل القائمة.
أثيوبيا الّتي كانت تصنّف منذ ثلاثين سنة ثاني أفقر بلد في العالم وكان اسمها مقترنا بالمجاعة والفقر، أثيوبيا الّتي عاشت أبشع دكتاتورية فاشية منذ نصف قرن، أثيوبيا ذات المائة مليون نسمة، البلد المتعدّد الأعراق والثّقافات والأديان تشهد قفزة نوعية في جميع المجالات وتسجّل معدّلا للنّمو يعدّ من بين الخمس الأفضل في العالم.
كيف أمكن لهم ذلك؟
تحوّلت أثيوبيا إلى جمهورية برلمانية وطوّرت مؤسّساتها الدّيموقراطية ورسّخت قيم المواطنة لتتجاوز كلّ الإشكاليات الّتي قد تطرحها تعدّد الأعراق والثقافات والأديان: أعلت قيمة القانون وحاربت الفساد بشفافية ومصداقية وسعت إلى تحقيق عدالة يتساوى أمامها مواطنيها لتسترجع صورة من موروثها القديم حيث كان هناك ملك لا يظلم عنده أحدا.
والأهمّ من ذلك كلّه استثمرت في الإنسان وأصلحت منظومتها التعليمية لتصبح من بين الأفضل إفريقيا مضاعفة الميزانية المخصّصة للتّعليم بقرابة الأربع مرّات خلال السنوات الأخيرة.
أثيوبيا تعمل بصمت وبدون ضجّة فلا نرى لها قنوات فضائية تهرّج مثل الّتي لدينا ولا إعلاما يروّج لمشاريع وهمية “فنكوش” ويزيّف الواقع ويطبّل للحاكم ولا دجّالين مهمّتهم سحر العيون وتزييف الوعي والضّحك على الذّقون ولا دعاية سوداء ولا خطاب حقد وكراهية لتقسيم مجتمع هو في الواقع غير قابل للقسمة.
في أثيوبيا تمّ العثور على أقدم هيكل بشري وفيها نشأت أقدم الحضارات منذ 3000 سنة قبل الميلاد ولم يتشدّق أحد بذلك ولم يذكر أحد بأنّها أمّ الدّنيا، وفي تاريخها الحديث لم يشفع لهيلاسيلاسي، كونه المؤسّس للدّولة الحديثة بأن ينسوا فظاعاته كفاشي مستبدّ فلم يؤلّه ولم يكتب التّاريخ وفق مقاسه ولم يجعلوا ضريحه مزارا ومساره مرجعا.
أمّا الكوت ديفوار فهي مازالت بالكاد تتعافى من حرب أهلية وانقسام حادّ، تمكّنت من لملة جراحها واتّجهت لمصالحة حقيقية وللعمل، العمل الوحيد الكفيل بتحقيق النّتائج.
وبالنّسبة لرواندا فأغلب من يزورها يشكّ في أنّها عاشت تجربة الإبادة الجماعية وحربا أهلية فظيعة بين الهوتو والتوتسي ذهب ضحيتها قرابة المليون من البشر وكانت نتيجة مباشرة لخطاب الحقد والكراهية، وقد أمكن لهم تجاوز ذلك وإعادة البناء حتّى صارت رواندا تصنّع سيّاراتها وحافلاتها وذات بنية تحتية تشكّ حينما تراها في أنّك في بلد إفريقي.
هكذا تقدّم من نعتقد أنّنا نفوقهم بأشواط وبقينا حيث نحن بل وتخلّفنا عنهم بأشواط، واكتفينا بالمهاترات والمناكفات والصّراخ والكذب والدّجل والضّراط.
هكذا خاضوا معاركهم الحقيقية وواجهوا استحقاقات اللّحظة واستجمعوا قواهم للبناء والعمل الدّؤوب بالذّهن والسّاعد وتجاوزوا تناقضاتهم واختلافاتهم برغم تعدّد الأعراق والثقافات والأديان، محوّلين ذلك التنوّع إلى قوّة ايجابية وإضافة نوعية مكّنتهم من التقدّم في أوقات قياسية.
وهكذا نحن برغم عدم وجود كلّ تلك التناقضات في مجتمعاتنا، فالبعض سعى ويسعى لأن يختلقها بعنوانين مختلفة دافعين الجميع في أتون معارك التّفاهات الكبرى وصراعات هوويّة مصطنعة لا طائل منها سوى تعميق النّمو في التخلّف.
في الوقت الّذي ينغمس فيه الأثيوبيون والروانديون والايفواريون في مشاريع بناء أوطانهم ويضعون استراتيجياتهم ويسعون لتحقيق اكتفاءهم الذّاتي، نخوض نحن في البحث عن مساواة بين الجنسين لا يمكن أن تكون إلاّ في الفقر والدّيون المترتّبة على كلّ فرد من قروض صندوق النّقد الدّولي ونمارس كلّ فنون الإلهاء والتغييب ونحقّق الأرقام القياسية في عدد أيّام الإضرابات عن العمل وفي نسب الطّلاق وشرب الكحول والانقطاع المبكّر عن الدّراسة، نتباهى بأفضل انجازاتنا: أكبر مقفول للكسكس وأكبر علم وأكبر كوب عصير، ثمّ نلوك سردية سخيفة عن خرافة الثلاثة آلاف سنة حضارة ودولة الاستقلال الحديثة الّتي “علّمتنا” وأراحتنا من القمّل، في حين أنّها على ما يبدو منظومة لم تنتج سوى الفشل.
هكذا نحن تعلو أصواتنا لنخوض في كلّ المواضيع الّا العمل، فهل لنا أن نقتدي بمن كنّا نسبقهم من تلك الدّول؟.. برغم سوداوية المشهد… يبقى الأمل.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock