مقالات

التعليم وأسباب العطالة …

علي المسعودي
حدث الثورة ذاته، حتى وإن بدأ بعربة بائع خضار هو حدث يُنْسَبُ بالأصالة إلى منظومة التعليم التي تمّ ارساؤها بعد الاستقلال.. شعب أمّي، هو بالضرورة شعب قطيع حتى وإن قتله الجوع، لا يصنع الثورات ولا حتى الانتفاضات.
فجمهور المتعلّمين والمدرسين وأصحاب الشهائد من العاطلين هو من ألهب روح الرفض في نفوس المواطنين وهو من نفخ في جذوة الثورة ووجه البوصلة إلى حين فرار المخلوع.
لقد اعتقدت السلطة في البداية أن تعليما عصريا هو بعض من قوتها ودوام سطوتها.. فخزان المؤسسة التربوية سيمدها برجالات الدولة الحديثة وفق مواصفاتها، وسيؤمن تحوّل المجتمع وفق نمطها المطلوب.. وهكذا جعلت من رجل التعليم سيّد الطبقة الوسطى، ومن مهنة التدريس الحلم الذي ينام عليه كل جيل.
ولكن الثمانينات حملت معها تحوّلات جوهرية في بنية المجتمع، ومع الانفتاح الاقتصادي والباب الموارب في الحريات والشأن السياسي انضمّت فئات جديدة إلى الطبقة الوسطى، فئات تسلّقت فجأة السلم الاجتماعي حاملة معها قيما مختلفة، غريبة عن المدرسة.. وشيئا فشيئا، تحوّلت أحلام الأجيال.. فإذا سألت طفل السادسة ابتدائي عن مثله الأعلى سيُسقط من حسابه المعلم، وسيذكر لك قائمة طويلة تبدأ بلاعب كرة القدم، وتنتهي بنجم للطرب.. ولا عجب أن تمتلئ تمارين التقييم في مادة التاريخ بأسماء هؤلاء بدل الأعلام.. كان ذلك إيذانا بأن الوقت قد تغير.. وبأن التعليم ومعه المجتمع في أزمة هيكلية عميقة..
وكان على النخبة أن تتفطن منذ الثمانينات إلى علامات المرض.. ولكن الفطنة كانت مفقودة، وربما الإرادة نفسها غير موجودة.. حتى أصبحت مؤسسات التعليم جزرا معزولة عن محيطها، وينظر بعض الناس إليها بغرابة مثلما ينظر الجمّيين إلى مسرح الجم.. وعوض أن تكون منارة إشعاع، وعاملا لتغيير المجتمع وتدريبه على القيم التي تلقنها، أصبحت مجال تأثر من البيئة المحيطة نفسها.. لقد انعكست الجاذبية.. وأصبحت مظاهر العنف التلمذي، وتفشي الممنوعات واستهلاك المخدرات وغياب قيمة المواطنة والمسؤولية هي بعض مما يخرج به المتعلم بعد سنوات الدراسة الطويلة.
ومنذ الثمانينات أيضا أصبحت منظومة التعليم مصدر إزعاج للسلطة. فالحراك الاجتماعي المتعاقب، والاحتجاج السياسي على السلطة كان نتاجا طبيعيا لتعميم التمدرس وتطور الوعي المجتمعي عموما، وكان كل ذلك مثيرا للقلق.
كان لابد للسلطة أن تدافع عن وجودها، وأن تُروِّض هذا التمساح الذي صنعته بنفسها.. هذه السلطة التي من أهم دعاماتها طبقة من أصحاب الأموال تتصف بالولاء الشديد وفق جدلية المنافع المتبادلة، ومراكز جهوية اتسمت بالحظوة نظرا لكونها خزانا لرجال الدولة.. هاتان الدعامتان أصبحتا محلّ تشكيك وانتقاد من قبل الفئات المتعلمة.. وقد سعت مشاريع الإصلاح اللاحقة أساسا إلى تطويع منظومة التعليم لكي تحافظ على متانة دعامتي الحكم هاتين !..
الطريق إلى خوصصة التعليم إذن هو واحد من أهم أدوات الفرز الجهوي والطبقي في البلد. فإذا كان أهم أهداف المدرسة العمومية هو خلق تكافؤ في الفرص بين جميع المواطنين والجهات، فإن الدفع نحو الخوصصة مضافا إليه تجفيف منابع المؤسسة العمومية في الميزانيات العامة سيكون من أهدافه العودة إلى التمايز الجهوي والمناطقي.. فالأثرياء سينجح أبناؤهم في تسلق المصعد الاجتماعي بينما يفشل الفقراء، وينجحون فقط في الحفاظ على بؤسهم.. وبالتالي تحافظ السلطة على الخارطة الطبقية والجهوية للبلد، الخارطة التي أمنت حكمها طيلة هذه السنوات..
•••
(مدرسة عمومية شعبية ديموقراطية) شعار برّاق وجميل، وعنوان لكل مشروع إصلاح.. ولو تحققت يوما هذه المدرسة لتغير كل شيء في خارطة الوطن، ولما احتاج الناس إلى ثورة أو مات من أجلها شباب وثُكلت إمرأة.. ولكنّ الشعار نفسه يبقى مخيفا، والفكرة بذاتها تدعو للحذر.. فما الذي استطيع أن أفعله لمحاربة هذا الشعار لو كنت أنا السلطة ؟
سأحطّ أولا من القيمة الاعتبارية لكل مدرّس، وسأجعله يتخلّى عن القيم المجتمعية التي يدرّسها للأجيال.. سأجعل منه صانعا بأجر، يبحث عن الربح في كل مكان، وسأحول التعليم إلى بضاعة تخضع لسعر الصرف.. سأسعى إلى تحطيم الصورة النمطية للمدرس وأؤلب عليه الرأي العام، فتشتمه عامة الشعب ويسخر منه التلميذ والأبوان.. سأتركه وحيدا، منبوذا يقارع الجميع حتى ينزل مثلهم إلى الحضيض، سألبسه لباس الأنانية، وأجعل منه معولا من معاول هدم المدرسة الوطنية حتى يفرّ أبناؤنا إلى المدارس الخاصة زرافات ووحدانا، وأكشف للعموم أنه لم يفكر يوما في إصلاح التعليم ولا كان من همّه تربية الناشئين..
هذه مهمة صعبة في كل الأحوال.. ولكن الجامعة العامة للتعليم الثانوي، في هذه الأيام، تعمل حثيثا على إتمامها !!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock