مقالات

الأزمة عميقة فى الذات المسلمة، والخروج منها ممكن ولكن بشروط

عبد الرحمن بشير
منذ أمد بعيد، يتناول المفكرون عن وجود أزمة عميقة فى الذات المسلمة، ويطرحون أسئلة كثيرة حول ماهية الأزمة، وهناك تساؤلات تأتى بشكل أعمق، هل الأزمة فكرية أم أخلاقية ؟ وهل هي فى العقل المسلم التى تم تشويهه بشكل كامل فى بعض الأحيان أو بشكل نسبي فى أحيان أخرى ؟، أم الأزمة تكمن فى المنهج الذى حاول تشكيل العقل المسلم فى مراحل متأخرة ؟ من أين أتت الأزمة ؟ هل هي من داخل المشروع ؟ أم هي من فهم المسلمين المتأخر للمشروع ؟
لدينا دراسات غير عادية فى فهم هذه الظاهرة حيث حاول كثير من المفكرين المسلمين فى تجلية الظاهرة، وتفكيكها بشكل عميق، وحاول كل واحد من هذه الكوكبة الفكرية النظر إلى الأزمة من زاوية مختلفة، ومع هذا فإن الأزمة ما زالت موجودة، لانها ليست بسيطة، ولا هي عرض لأزمة بسيطة، بل هي مركبة، ومعقدة، وعميقة فى الجذور، ولها ارتباط بالنص الديني قراءة وفهما، تأويلا وتنزيلا، قبولا ورفضا، كما أنها تنطلق من تراث له وجود زمني مقبول، فأصبحت الأزمة جزءا من التفكير، بل أصبح التفكير ذاته مأزوما، فليس هناك مساحة بين النص المأزوم (التأويل لصالح الحكم)، والعقل المسلم المشَكّل فى مناخ المنهج التبريري، ولهذا فلا بد من دراسات جادة فى تفكيك العقل المسلم المعاصر، والذى يعيش فى لحظة (الأفكار المرهقة) كما يقول المفكر الهولندي جوهان هويزينغا، وقد تناول بشكل رائع الأفكار والمثل المرهقة فى كتابه (خريف العصور الوسطى)، وانطلاقا من هذه الفكرة، فإننا نستطيع أن نؤكد بأن العقل المسلم المعاصر فى جملته يمرّ بمرحلة الخريف الفكري فى هذه اللحظة التاريخية، لأن أغلب الدراسات ما زالت تعيش فى التاريخ، ولا تخرج من رحم الماضى، بل ليس لها إمكانيات التفاعل مع أسئلة اللحظة، ولهذا تجد تلك العقول تحسن الدوران مع ما قيل من أفكار قبل قرون متطاولة، ولا تملك القوة فى تجاوز العقبات، وليس من شأن هذه العقول الإقتحام لأرضية جديدة تصنع أملا لهذه الأمة المنكوبة بسبب الأزمة العميقة، والمركبة.
الأزمة فى عقول المفكرين
لقد تناول حسن البنّا أزمة المسلمين فى بعض رسائله، فلاحظ أنها منحصرة فى الفهم الخاطئ للإسلام، ولهذا جعل الفهم ركنا من أركان الطاعة فى الإنتماء إلى جماعته، بل قدم الفهم على الإخلاص، لأنه لاحظ كغيره بأن مشكلة المسلمين ليست فى غياب الإخلاص، بل فى الفهم الخاطئ، أو المنحرف، أو الفهم المتأثر بالفكر الوافد، ومن هنا وجدناه يتكلم عن أصول العشرين فى تحسين الفهم كشرط فى العمل الجماعي للخروج من الأزمة، وجاء المودودي ليتحدث عن قريب من ذلك، فوجد أيضا أن مشكلة الفهم ما زالت هي الأساس، فلا نهضة للأمة بدون تصحيح لهذا، وعلى هذا الطريق سالت مداد كثيرة حيث لاحظنا إصدار كتب حول تصحيح المفاهيم، وبعد مدة من الزمن ظهر الأستاذ مالك بن نبي، والذى تحدث عن مشكلة منهجية صنعت تلك الأزمة المتعلقة بالفهم، فغياب الفهم الصحيح ليس مرضا، بل هو عرض للمرض، ومن هنا فلا بد من تجلية المشكلة بشكل أعمق، واستطاع أن يناقش بشكل فلسفي أعمق، ما سبب تخلف العقل المسلم ؟
وجد مالك بن نبي أن المشكلة عميقة الجذور، وليست سطحية، وبدأت فى وقت مبكّر، وذلك منذ أن تحولت والحكم والخلافة من المدينة المنورة إلى مدينة دمشق، ومن هنا تحولت الحياة الثقافية والفكرية والسياسية من عاصمة الخلافة الراشدة إلى مدينة دمشق، والتى تعيش مرحلة ثقافية تصطدم مع مفاهيم ثقافة المدينة، ولَم يكن التحول جغرافيا سياسيا فقط، بل كان تحولا بنيويا، وثقافيا، ومن هنا بدأت الأزمة، والتى سوف تبقى فى جسد الأمة طويلا.
فى لحظة أخرى، وجد الفقيه الرباني أبو الحسن الندوي أن الأزمة فى هذه الامة أخلاقية بشكل معمق، وقد تناول فى أكثر من كتاب متحدثا عن الأزمة الأخلاقية، ووجد أن الحل فى إزالة هذه المشكلة التربية، وخاصة فى مجال القيم والأخلاق، وله فى ذلك كتاب فريد (إلى الإسلام من جديد)، وركز فى قراءته على الإصلاح العقدي والتربوي كمخرج من الأزمة.
هناك من المفكرين من لاحظ فى مسار الحراك الإسلامي مسألة مهمة، وهي التوسع الجغرافي، والتمدد البشري على حساب النوع، ومن هؤلاء الأستاذ محمد قطب فى كتابه (واقعنا المعاصر)، وكانت لفتة ذكية منه، وهذا أيضا ما لاحظه المفكر الموريتاني فى كتابه الرائع ( الأزمة الدستورية فى الحضارة الإسلامية) وعنون لهذا فى الكتاب عنوانا فرعيا (امتداد على حساب العمق) وهكذا تفعل كل الحضارات كسنة كونية.
يؤكد الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي بأن أساس الأزمة سياسية، ذلك لأن الأمة عانت، وما تزال تعانى مشكلة الإستبداد السياسي، ويرى بأن الحل هو تجاوز هذه المعضلة بتكوين عمل مؤسسي بعيدا عن العمل الفردي فكتب فى كتابه (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد) قائلا: وحيث أنه تمحّص عندى أن أصل الداء هو الإستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقر فكرى على ذلك -كما أن لكل نبأ مستقرا- بعد ثلاثين عاما، بحثا من سبب يتوهم فيه الباحث -عند النظرة الأولى- أنه ظفر بأصل الداء، أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن دلك فرع لا أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة.
إن السياسة الفرعونية فى العالم الإسلامي تخلصت من كل دور للأمة، فأصبح الحكم المتغلب (المستبد) هو الأصل، ومن هنا نجد أن الأمة بقيت فى كل هذه المدة الطويلة تحت الوصاية السياسية.

محمد بن المختار الشنقيطي

كتب المفكر السياسي، والأستاذ الجامعي الدكتور محمد المختار الشنقيطي كتابه الهام (الأزمة الدستورية فى الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي) ومن طباعة منتدى العلاقات العربية والدولية، وقدم للكتاب الشيخ راشد الغنوشي الذى وصف الكتاب بأنه جاد، كما وصف الكاتب بأنه دارس جاد، وقد قرأت الكتاب كله من الجلد إلى الجلد، بصفحاته التى جاوزت الخمسمائة، وأنهيته كقراءة أولية، ولي عودة إليها كعادتى مع الكتب الجادة، والدراسات الثمينة، ومن خلال قراءتى الأولية، وجدت أن المفكر حاول أن يقرأ، ويدرس، ويناقش، وينتقد، ويقارن، ويطرح، كل ذلك فى كل فصوله الستة، ومقدمته الرائعة، وخاتمته المركزة، وحاول بشكل غير عادي أن يناقش الأفكار الكبرى فى كل المدارس الفكرية، وهو قاري نهم، ودارس جيد، ومتقن لعدة لغات عالمية، فهو بحق يحاول أن يرى ما لا يراه الآخرون فى هذه المسألة الدقيقة، والسبب هو أن الرجل يحاول، وهذه ميزة تميز بها المفكر القراءة الموسوعية، والمتميزة كذلك بالنقدية الأليمة واستفاد كما شرح فى كتابه مقولة إسحاق نيوتن (لقد رأيت أبعد مما رَآه الآخرون لأنى وقفت على أكتاف العمالقة).
استفاد الرجل من خيرة العقول الإسلامية قديما وحديثا، وقرأ لأعظم العقول المسلمة فى العصر الحديث، وخاصة للذين يكتبون بروح الباحث، والدارس، ومن هنا رأينا قراءته المتميزة لأفكار الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال، والشيخ العلامة محمد عبد الله دراز، والأستاذ الكبير مالك بن نبي، والأستاذ القانوني عبد الرزاق السنهوري، والفيلسوف الباحث الدكتور أبو يعرب يعرب المرزوقي، والأستاذ القائد حسن الترابي، والإمام المفسر رشيد رضا، والمفكر السياسي عبد الرحمن الكواكبي، والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري، والباحث فى العلوم السياسية رضوان السيد، وحاول فى قراءته لأفكار هؤلاء العمالقة أن يفهم ما وراء السطور، وأن يحلل ما توصلوا إليه من أفكار، بل ويحاول بشكل معمّق أن يناقش ويقارن ويوازن ليتوصل إلى نتائج قد نتفق، أو نختلف معه، ولكننا نؤكد بأن قلمه جاد، وأنه يقتحم الأسوار الحديدية للوصول إلى أراض جديدة.
يعتبر الدكتور محمد المختار الشنقيطي قلما يصول ويجول فى مجالات عدة، ولكنه ليس قلما سهلا، فهو ابن المدرسة الشنقيطية فى الحفظ والفهم، كما أنه ابن المدرسة الحديثة حيث تخرج من أهم الجامعات فى أمريكا، فقد نجح فى الجمع ما بين الثقافتين، ولكنه حافظ شخصيته المسلمة، ولَم ينهزم أمام الفكر الغربي، كما أنه لم يقع تحت أسر الفكر التاريخي بحيث استطاع أن ينتقد عبيد الفكر الغربي بعلم، وعبيد الفكر التاريخي بفقه.
قرأ لكبار المفكرين والفلاسفة فى الغرب، واستفاد من أفكارهم العملاقة والصحيحة، وتجاوز عن أخطاءهم، فهو كالأستاذ على عزت بيحوفيتش، ولديه مصطلحات خاصة به، ولكنها مستوحاة من الفقه الإسلامي، كما أن لديه شجاعة غير عادية فى القول ما يراه دون تردد، وسوف أتحدث فى مقال خاص عن ما يمكن الإستفادة من هذا المفكر الإستثنائي فى هذه اللحظة الإستثنائية من تاريخ الأمة.
لقد قرأت سابقا للمفكر الكبير على عزت بيحوفيتش، ورأيت في أفكاره العمق والموضوعية والموسوعية فى آن واحد، ثم قرأت للفيلسوف الكبير عبد الوهاب المسيري الذى ناقش الفكر الغربي بعقل مفتوح، وتوصل إلى نتائج مذهلة، واقتحم إلى ذاتى العميقة، وغير كثيرا من مفاهيمى الكبرى، واليوم قرأت للمفكر الإسلامي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، وهذه ليست قراءتى الأولى لأفكاره، فقد قرأت له فى وقت مبكّر لقراءاته الموضوعية للحركة الإسلامية فى السودان، ثم صاحبت أفكاره بعدئذ، ورأيت فيها الجديد والشيئ الكثير، ولديه فى كل كتاب إضافة نوعية، وقراءة مركزة، ولكن هذه المرة يعالج قضية القضايا، وأس المشكلة، والسبب الرئيسي للازمة التى تعانى منها الأمة منذ قرون بشكل غير مسبوق، ولهذا كان الكتاب فريدا فى بابه، وباعثا لكثير من التساؤلات المثيرة، والتى سوف نناقشها فى مقال خاص بإذن الله.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock