مقالات

25 جانفي في مصر عيد أقلمة الثورة ووعد استعادة أقلمتها

أبو يعرب المرزوقي
ماذا يمكن أن أقول في اليوم الذي يمثل عيد انتقال الثورة من المحلية إلى الإقليمية -بانتقالها من تونس إلى مصر مركز الإقليم السني منه على الأقل- فعوضتها إقليمية الثورة المضادة بإزاحة الرئيس المنتخب الأول في تاريخ مصر في شكل حرب أهلية عامة حارة بدأت باردة بتفتيته من الداخل ومن الخارج منذ قرن بعد إلغاء رمز وحدة الأمة السياسية والروحية؟
عودة وحدة الإقليم الموجبة كانت المقوم الأساسي للثورة فأصحبت بسقوط النظام المصري وتعثر الأنظمة السورية والليبية واليمنية، وإلى حد التونسية، إقليمية سالبة تتقوم بها الثورة المضادة بدأت كذلك إماراتية وعمت لما أصبحت سعودية ما يجعل دور هذه التعميمي في الثورة المضادة مثل دور مصر في الثورة.
ويمكن القول إن دور الإمارات في بدء الثورة المضادة يناظر دور تونس في بدء الثورة. هذه شرارة الخير وتلك شرارة الشر في تاريخ الأمة المعاصر. لكن الثورة والثورة المضادة مركزهما مصر والسعودية لأنهما تمثلان مركز الثقل الإقليمي الذي يمثل ما يسمى بالإقليم التابع للجامعة العربية رمز الفشل الدائم.
وشعبا بلد الحرمين ومصر يمثلان اللغز الذي ينبغي أن يكون كلامي حوله لأن الإشكال فيهما ولا حل إلا بهما رغم أن نظاميهما يعتبران حاليا مما لا يقبل العلاج لأنهما يمثلان الاستبداد والفساد ليس بالمعنى السياسي فحسب بل وكذلك بالمعاني المتعلقة بجوهر الكيان والوجود أي شبه تعفن الجثامين.
وما كان لحكام مصر وبلد الحرمين وتوابعهما من النخب أن يكون لهما هذا الدور التعفني -الجنجران الوجودي لقيام الأمم- لو لم تكن الجرثومة التي أصابتهما ممثلة في عودة ما يرون أن وجودهم مشروط بمحو وحدة الأمة المادي والروحي أي وحدة جغرافيتها وتاريخها بمرجعية اسلامية لكونهما تأسسا بالقضاء على دورهما في الإقليم.
فلا يمكن فهم دور مصر وبلد الحرمين الحالي في الثورة المضادة من دون الوصل بدور إيران وإسرائيل ومن وراءهما في الحرب على الإسلام عامة وعلى السنة خاصة بمن في ذلك إدخال الاكراد والترك والأمازيغ وسودان العرب من الأفارقة لتفجير قلب دار الإسلام وسر قوته ومعين انبعاثه واستئناف دوره في التاريخ.
ذلك هو الحيز الذي يمكن أن يكون مدار كلامي في بداية الثورة في البلد الذي كان سبب انتكاستها وانتقال الفاعلية التاريخية مؤقتا منها إلى الثورة المضادة. فإذا فهمنا هذه البنية المعقدة أمكن لنا أن نقلب مجرى الريح لتكون كما نشتهي لأن ريح التاريخ ليست قضاء وقدرا بل هي عين إرادة الجماعة.
واعتباري الشعبين السعودي والمصري لغزا يعني أن الحل لن يأتي إلا منهما. ذلك أن تحررهما هو الذي سيحرر الأمة حتما ولا يمكن تصور هذين الشعبين سيقبلان الخضوع لما بلغت إليه أنظمتهما من التعفن والغباء والأجرام لعل رمزه هو ما فعله غبي المنشار بأكثر أصوات شعبه اعتدالا واتزانا: شهيد الكلمة الحرة خاشقجي وصوت الثورة في الخليج العربي.
ومهما قيل في التردي القيادي في هذين البلدين فإن ما نراه الآن لا يمكن أن يصدقه عاقل لو قص عليه ولم يره بالعين المجردة. فالأمير الاحمق والسيسي الذي لا يقل عنه حمقا كلاهما لا يصلح لقيادة نعاج في حظيرة لكنهما متسلطان إلى أكبر شعب واغنى شعب في الإقليم فضلا عن منزلة البلدين وصلتهما بمعالم الأمة وتاريخها.
وقد يعجب الكثير من التشخيص التالي: فما حققته إيران في العراق وسوريا نرى إسرائيل تحققه في بلد الحرمين ومصر وبخلاف ما يتوهم الكثير فإن من ساعد إيران في الأولين هو عينه من يساعد اسرائيل في الأخيرين. ما يجعل اللغز مداره جواب السؤال: ما علة تمكين أمريكا لإيران وإسرائيل في الإقليم؟
وأنا واثق من أن استهدافهما المباشر في هذا الحلف الخفي بين إسرائيل وإيران سواء منهما مباشرة أو بواسطة أدواتهما العربية -وهنا أقصد سمساري إسرائيل ورمزهم الإمارات عبدة الحاخامات وسمساري إيران ورمزهم مليشيات السيف والقلم العرب عبيد الملالي- سيجعلهما أمل الموجة الثانية من الثورة.
ولست أقول ذلك من باب الأماني ولا حتى من باب اليأس من أقطار الثورة الأخرى -تونس وليبيا وسوريا واليمن- بل لأنـي أومن بأن التاريخ يكتبه من تتوفر له الشروط التي تمكنه من العمل بما يقتضيه العصر الذي يحصل فيه العمل من احجام قادرة عليها. فهذه الأقطار كلها ليس لها قدرة التحرر من التبعية حتى لو توفرت لقياداتها الإرادة.
لكن بلد الحرمين ومصر لهما شروط القدرة والحجم وستتوفر الإرادة بفضل دور الشعبين. فشعب الحرمين وشعب الملجأ الأخير لحماية بيضة الإسلام في العصرين المغولي والصليبي لهما الشروط المادية والرمزية للقيام بهذا الدور فضلا عن كون شعبيهما متشبعان بمطالب الثورة في موجتها الأولى أي إن أفكار الثورة التي أشعت من تونس وعمت الإقليم بفضل وصولها إلى مصر ملتهبة في قلوبهم وبدأت تنطق بألسنتهم.
والانتقال من القلب إلى اللسان هو الاستعداد الروحي والمادي للوصول إلى اليد إذا لم تستجب سياسة الأنظمة للشعوب وهو قانون كوني في تاريخ جميع الامم. فما لم تفهمه الأنظمة بقراءة ما في قلوب شعوبها ولم تسمع ما على ألسنتهم لن تفهمه إلا باليد أعني أن موجة الثورة الثانية آتية لا ريب فيها.
وسواء كانت باستفاقة النخب فيهما أو بالفزة الشعبية العارمة فإنها ستكون حتما في مصر وفي بلد الحرمين. ذلك أن الملالي والحاخامات لن يتركوا للشعبين أدنى فرصة للصبر على الاستفزازت التي لا حد لها. فمن مد يده إلى الهلال ومن مد يده إلى القدس كلاهما لن يتورع لمد يده إلى الحرمين والنيل.
ولهذه العلة اعتبرت خاشقجي ابا عزير المشرق وأبا عزير خاشقجي المغرب. واجتماع الرمزين هو اجتماع النخبة (خاشقجي) والشعب (بوعزيزي) والتحامهما لجعل الموجة الثانية حاسمة وهي ستبدأ من المركزين رمز الثقل الروحي (بلد الحرمين) ورمز الثقل البشري (بلد النيل) لأن مصدر حياتهما كليهما مهدد.
ومن علامات قرب الموجة الثانية مآل الحرب في اليمن وبداية الربيع في السودان. فهذان الجاران للمركزين من تباشير بداية الموجة الثانية. فلن يخرج النظام السعودي من دون العدوى اليمنية ولن يخرج النظام المصري من دون العدوى السودانية: ثورة القيم الكونية المشتركة بين الديني والفلسفي.
فاليمن لن يتحرر إلا إذا اعتبر نظام الحوثي من أدوات الإمارات وبلد الحرمين واعتبر السودان نظام البشير جنيسا لنظام الحوثي فأصبحت ثورتهما ثورة على ما ثار من أجله الربيع العربي ولم يعد مجال ثورتهما مقصورا على ما في بلديهما بل انسحب على ما منه يأتي الداء أي الثورة المضادة ومن وراءها.
وحينها تستعيد الثورة طابعها الإقليمي فتفتك الأقلمة من الثورة المضادة وتعلن اقطار الربيع دون خوف ولا وجل أن الثورة إقليمية وأن ضياع فرصة التحرير السابقة من الاستعمار لتحقيق شروط القيام في عصر العماليق باستعادة وحدة الأمة لن يتكرر مرة أخرى في معركة التحرر الجامعة بينه وبين شرطه.
وأخيرا فأخطاء الموجة الأولى التي ما تزال سارية ينبغي أن تكون درسا لتجنبها في الموجة الثانية. فلا ثورة من دون مقاومة بكل أدوات المقاومة. ولكن لا مقاومة بغباء أمراء الحرب. المقاومة سياسة فيها المقاومتان الدبلوماسية والمسلحة عند اللزوم. لكنها تنجح إذا كانت بأخلاق الفرسان وبـاستراتيجية المطاولة وليست الصدام المباشر. فليست الثورة عنف شعب ضد الـدولة بل مقاومة شعب ضد علل غياب شرعيتها الشعبية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock