مقالات

الجنرال في متاهته …

علي المسعودي
أزمة العمل النقابي في قطاع التعليم الثانوي هي أزمة أخلاق قبل كل شيء، وهي أيضا أزمة خطاب واستراتيجيات مفقودة، وأزمة دولة يتشظى جسدها كل يوم لتولد منه القبيلة. وهي في النهاية أزمة طبقة وسطى خسرت مواقعها الطبقية ولكنها لم تغادر أنانيتها.
القطاع الذي أمّن وصول قطار التربية إلى محطّته الأخيرة ذات ثورة، القطاع الذي قاد المهمّشين والبائسين في كل شارع ومنعطف حين التحفت النخب المترفة بالصمت… أين هو يا ترى ؟ هل ضاع وسط زحام المصالح في هذا البلد ؟ كلما تفرست في وجوه التلاميذ والأولياء بل حتى وجوه الأساتذة يحضرني دائما نفس السؤال.
لقد اتضح أن قواعد هذا القطاع، يمكن تحشيدها بسهولة لسبب أو لغير سبب : فقط قليل من الدعاية على الفضاء الافتراضي مع تجريم وتخوين لكل رأي، وبعض من الشعارات المعلّبة القديمة، وكثير من المظلومية تُزرع في النفوس، فيصطف جيش الطباشير وراء جنراله لا يخشى الخطر.
من قال أن الستالينية قد انقضى زمنها ؟ أو أن الحقيقة قد تُكتب في غير “البرافدا” ؟
لقد قلنا منذ البداية أنه لابد من قراءة دروس الفشل، وأن الاتعاظ من التاريخ هو طريقنا الوحيد للحلّ، وأن النضال الصحيح ينبغي أن تكون بوصلته إصلاح المدرسة العمومية وفق رؤية شاملة ومن ضمنها الوضع المادي للمدرس كجزء من كلّ.
لو فرضنا أننا حقّقنا بعض المكاسب المادية، ثم استيقظنا من نضالنا على نفس المدرسة العمومية المتهالكة فهل بهذا ننتصر ؟
لقد كنّا نقول أن كل تحرّك لا تُسنده المركزية هو تحرّك بلا أفق، وأن تعدّد الخصوم يسدّ كل المنافذ والطرق… وأن بعضا من الصورة هو انعكاس لصراع التموقع النقابي وبعضها الآخر انعكاس لصراع القطاع مع ربّ العمل.. وأن التوظيف واستعمال القطاع واقع دون شك.
لقد كنّا نقول أنّ القطاع يحصد ثمار نضاله القديم، وأن الوزير الجديد من هذا الثمر، وأن الجامعة العامة قد قبلت به منذ البداية، وأن انزعاحها من اللون البنفسجي ليس أصيلا بل حادث حدث.
لقد كنا نقول أن كل الصيد في جوف الفرا، وأن ميزانية الدولة هي الفرا.. هذه الميزانية التي تعطي للتربية أقل ما تستحق. وأن النضال مبدؤه هنا، وما عداه تفتيق ورتق.
ولكن الآذان طويلة والأسماع عليلة.. ولا رأي لمن عُدّ رأيه من باب الخيانة !.
•••
الخطة النضالية للجامعة العامة للتعليم الثانوي كانت كالتالي: أيها المدير، أيها الأعوان من كل القطاعات، أيها الوليّ، أيها التلميذ، أيها العاطل والمنشغل بفتل حبل مشنقة لنفسه أو الهارب في زورق موت نحو الأمل.. توقفوا عن فعل أيّ شيء.. لقد فقدنا مركزنا الاجتماعي فاذهبوا وناضلوا بدلا عنّا.. إنا هاهنا ننتظر !!
الإضراب حقّ دستوري، ولكن الطبيب الذي يرفض معالجة مريض مشرف على الموت بحجة النضال يرتكب جريمة لا تغتفر.
الإضراب حقّ دستوري، ولكن المدرس الذي يلغي بدعوى النضال سنة من حياة جيل كامل يرتكب خطأ بحق الوطن.
قد تسألني عن السلطة، ولكن السلطة هي العلّة الأولى بالمعنى الفلسفي، وهي عّلة هذا البلد بالمعنى الحرفي.. فهل نشاركها إثمها بدعوى أنها هي السبب ؟؟.
للأسف رأينا خلال هذا المسار كلا من السلطة والجامعة العامة يسقطان معا في مستنقع بلا قيم، ولا قاع.
رأينا مظاهرات تلمذية تجوب الشوارع والمدن
ورأينا شعارات ترفع من بينها هذا الشعار :
(كرامة أستاذي قبل إمتحاناتي)
هل بلغ وعي التلاميذ حدّا من النضج والفهم يمنحه القدرة على صوغ مثل هذه العبارات ؟
أم أنه التوظيف المخيف ؟
ألا يكفي حرمانهم من حقوقهم الدستورية، حتى نستعملهم دروعا نقابية ؟
ألا يكفي الهرولة بهم نحو سنة بيضاء حتى نرفع بأيديهم لافتات تحمل مثل هذا الهراء ؟
ألا يكفي توظيفنا للبشر والححر من أجل النضال الأستاذي حتى نوظف تلميذا لم يخرج بعد من جلباب الوصاية الأبوية ؟.
•••
وفي النهاية، أية أثمان، وأي حصاد مرتقب ؟
كل هذا المسار على مدى سنوات، كل هذا النضال ثمنه سبّ وشتم من الكبير والصغير، ومضاعفة منح دفعنا ثمنها أصلا !.
كلّ المنح المعروضة للتفاوض لا ترقى إلى حجم “المطالب”.. فحجم الاقتطاع للسنة الفارطة وحدها يكفي لتمويل كلفتها على مدى السنوات العشرة القادمة !.. إذا وقعنا اتفاقا بهذا الخصوص فهو فقط من أجل استرجاع أيام الاقتطاع !.. ونحن لم نفعل غير تقديم زادنا ثم مطالبة السلطة بإطعامنا من هذا الزاد !
أما المطلبان الرئيسيان فأحدهما، وهو تنفيل التقاعد، سيصبح قانونا مهجورا بعد سنتين أو ثلاث، لانقراض الجيل المعني به. والثاني، المسمى منحة خصوصية، فعملية بيعه مقابل صندوق خدمة اجتماعية تتقدم حثيثا… ويكون مولد النضال بلا حمص !
هكذا انحدرنا من الشعارات الهادرة في ساحة محمد علي المطالبة بإسقاط النظام، إلى توسّل صندوق للرعاية الاجتماعية !
وهكذا تنتهي الدونكيشوتية في كل زمن..

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock