مقالات

في ذكرى الثورة المصريّة ليل البكاء الطويل…

نور الدين الغيلوفي
1. في مصر قامت يوم 25 يناير ثورة سرعانما سرقها عسكر محصَّن دهس الشعب المصري تحت مجنزراته وأحرق جموع المصريين أحياء بمباركة من نخبة ديمقراطية حداثيّة يساريّة وليبراليّة وقوميّة متكلّسة توقّف وعيها عند آخر انقلاب عسكريّ ولم يرتفع بها التفكير عن مستوى أحذية جنوده الفاتحين وهم يحسبون أنّهم أصحاب فعل التفويض وَسَادَةُ الأمر وصدّقوا أنّ العسكر مفوَّضٌ مأمورٌ بين أيديهم وقد غاب عنهم أنّهم نسوا السلاح والثروة والسلطة بين يديه.. ولا سلطان لهم عليه.. ولعلّ أولئك هم الذين رفعوا شعار “الجيش والشعب إيد واحدة” أيّام الانتفاض المباح ولم يكن ذلك الشعار في حقيقة أمره سوى خنجر عُرز في خاصرة الثورة من مندسّين فيها ليسوا سوى مواعين العسكر المصري القديم وخلاياه النائمة يستعملها متى أراد كيفما أراد…
2. كان مشهد اعتلاء الشباب لبعض الدبّابات في شوارع القاهرة هو الطريقة الفرجويّة المؤثّرة التي اعتمدتها الآلة الحربية لتنويم شباب الثورة في ترتيبٍ لفعل غدر ستدفع مصر ثمنه غاليا في لاحق سنواتها… ركبت النخبة الحداثية من يساريّين وليبراليين وقوميين أمواج الثورة والتحقوا ببعض عرباتها ورسموا على وجوههم فرحا لا لون له استبشارا بعهد جديد يبدّل وجه مصر التي أمسكها حسني مبارك طيلة ثلاثين سنة وأراد أن يورّثها أبناءه من بعده… ولكنّهم ما لبثوا أن انقلبوا على أعقابهم وتراجعوا عن إيمانهم بالشعب “السخيف” “الساذج” الذي لا يفهم شيئا ولا يحسن اختيارا وإلّا لما جاء بخصوم لهم تعوّدوا أن يمارسوا ضدّهم شتّى صنوف العنصرية متأثّرين بآخر تهمة ألحقتها بهم محاكم “ثورة” 1952 العسكرية…
3. لقد نسي هؤلاء في لحظة ما أنّ الثورة في بلاد العرب لا تعني شيئا ما لم تتقدّمها دبّابة يعلو ظهرها حذاء عسكريّ يحمل رشّاشًا يكتب بيانًا.. ثورة تأتي بمجلس قيادة لها يبدأ بتوزيع الموت على الشعب تحت شعار “لاحرّية لأعداء الحريّة” حتّى إذا أخضع المعترضين بدأت عناصره في تصفية بعضها بعضا.. ومن تكون له الغلبة من بينهم يسمّى زعيما خالدً من بعض ورثة الإعجاز في التاريخ.. حتّى إذا تُوُفّي جاء من بعده عسكريّ آخر يبني له صورة مختلفة عن صورته هي أشبه بالنقيض.. وذلك شأن العسكر في كلّ مكان.. ينفي لاحقُه سابقَه…
4. ماذا فعل العسكر الذي حكم مصرَ منذ سنة 1952 حتّى 2011؟
ألم يزرع بها الموت والعداوة وأسباب الخراب؟
ألم ينزل بها إلى الحضيض كما لا يفعل الأعداء بأعدائهم؟
ألم تؤلْ ثورة الضبّاط الأحرار إلى السادات بطل اتفاقيّة كامب ديفيد؟
ألم تقع بين يدي مبارك كنز الكيان الصهيونيّ الاستراتيجي؟
ألم تنته إلى السيسي مدبّر صفقة القرن لقاء “رزّ” يبيع لأجله كلّ الأرض وكلَّ الشعب؟
أليس أنّ الأمور بمآلاتها؟
ماذا بقي من مصر غير وهم كسدت سوقه مع الزمن الديمقراطيّ؟
ما الفرق بين احتلال أجنبيّ يأتي على ظهر دبّابة تحمل علم الأجانب وانقلاب عسكريّ يأتي على ظهر دبّابة مستورَدَة تحمل علمَ الوطن؟
ما الوطن؟
5. لقد ثار الشعب المصري على الفرعون الذي ظلّ جاثمًا على المحروسة مدّة ثلاثين سنة بتمامها وكمالها ووضع ثورته بين أيدي نخبة عفِنة انشغلت بتسوية ظهرها للدبّابة المتربّصة.. وخرجت الجموع ضدّ حكم الإخوان المسلمين لقطع الطريق على “دولتهم الدينية القروسطية الاستبداديّة المتخلّفة”.. وتصدّر المشهدَ مثقَّفون وفنّانون وراقصون ينشدون معًا “تسلم الأيادي” وهم يتنفّسون رائحة الشواء الآدميّ من شركاء لهم في التراب لم يفعلوا لهم شيئا غير أنّهم اختلفوا معهم.. شركاء لهم تجنّبوا منافستهم بالأدوات الديمقراطية وجعلوا منهم “إرهابًا محتمَلًا” استعانوا عليه بالآلة الحربية التي كان أوَّلُ جعلِها لحماية التراب الوطنيّ من الأعداء.. صار العداء داخل الوطن بين شركاء الوطن.. وعانقت النخبُ آلة القتل هربا من معارك لا قتل فيها لا تستطيعها.. كانوا أمس ينافسونهم بآلية الانتخابات ويخوضون ضدّهم صراعًا مدنيًّا راقيا.. ثم انتهوا إلى سحقهم بآلة الحرب العسكريّة من أجل صناعة ديمقراطية لم يُسبق العرب إليها من بين شعوب الأرض قاطبة…
6. لقد اختار الشعب المصريّ الإخوان المسلمين في جميع الاستحقاقات الانتخابيّة التي شهدتها البلاد مع قيام الثورة وأعجز بذلك خصومهم في السياسة والأفكار فكان أن عوقب الشعب على اختياراته تلك ودفع الثمن غاليا.. فضاعت دماء الشهداء.. وضاع زمن البلاد.. ونشأت دولة عسكرية مجرمة هي الأسوأ في التاريخ المصري الحديث.. وبعد أن سحق الانقلاب الإخوان شرع في سحق بقية أنصار الثورة.. بل في سحق كلّ من لا يصفّق للزعيم الصاعد وزمرته.. وشبّت نيران العسكر في حدائق الأمل التي غرستها ثورة 25 يناير 2011.
7. أمّا الإخوان المسلمون فليسوا خلوا من المسؤولية لأنّهم طوال تاريخهم لم ينجحوا في تحسين صورتهم لدى النُّخَبِ المصريّة وظلّوا مثل طائفة منغلقة على ذاتها.. تتوسّع أفقيّا بين جماهير الشعب بما تتقنه من فعل اجتماعيّ.. ولكنّها عجزت أن تجد لها موقعا بين نُخب المثقَّفين والفنّانين.. لم يفهم الإخوان أنّ في مصر شعبين.. شعب المغلوبين من الجماهير المسحوقة العاجزة وقد انتشروا بينهم واختلطوا بهم.. وشعب النخب السياسية والثقافية والفنيّة الذي ظلّ محصَّنا ضدّهم لا ينفتح لهم ولا ينفتحون عليه كما لو كان بين الطرفين برزخ لا يبغيان… لم يحسن الإخوان التطبيع مع شركاء الوطن المختلفين ولم يسعوا إلى إيجاد لغة مشتركة للتفاهم معهم.. وبذلك ظلّوا دائما في دائرة الاتّهام التي وضعهم خصومهم فيها ولم يبذلوا من الجهود ما يكفي ليخرجوا منها.. وبذلك انتهى الأمر بالإخوان إلى السجون والمعتقلات والمقابر وانتهى بخصومهم إلى سجن أوسع من سجنهم هو الوطن.. بل سُجن الوطن والثورة والإخوان وخصومهم في معتقلات عسكر هو أقبح من جيوش المحتلّين…
8. صحيح أنّ الثورة المصرية كانت ضحيّة نخبة استئصالية غير ديمقراطية أسلمتها لعساكر مجرمين لا يعرفون شيئا أكثر من القتل.. ولكنّها أيضا ضحيّة للإخوان الذين لم يستثمروا شيئا من قوّتهم في حماية ثورة شعبهم الذي فوّضهم بالانتخابات لحكمه.. لقد دفعوا ثمنا غاليا جدّا نتيجة انتصارهم للثورة.. ولكنّ ذلك لا ينفي عنهم مسؤولية تقديم الشعب المصريّ لقمة سائغة لجيش مجرم أمّم الدولة وسيطر على كامل مرافقها.. جيش فعل بمصر ما لم تفعله جيوش الاحتلال بالدول التي استولت عليها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock