القصور الفكري… ومعادلة بناء الدولة
بشير ذياب
بعد ثمانية سنوات من الإنتقال المترنّح أصلا يعود بنا البعض للمربع الأول وكأن شيئا لم يقع نعود من جديد لطرح مسألة الهوية والدين والإيديولوجيا والتعايش والسطو على الدولة والنمط المجتمعي…، “أيها النخب البائسة” (كرّهتونا في حياتنا).
اليوم ونحن نأسّس لبناء ما بقي من دولة، علينا أن نتّفق جميعا على عدة ثوابت تمثِّل خطوط العرض والطول التي على الجميع أن يحترمها، وأن يحترم نفسه وهو يتحرك داخل فضائها، وأولها مسألة الكفر والإيمان، لأننا اليوم ونحن نريد أن نبني دولة قوية سياسيا وإقتصاديا وعسكريا (أو هكذا على الأقل كنا نحلم ذات يوم) فإن مسألة الكفر والإيمان والعلمانية والحداثوية ليست محدّدا أو ثابتا من ثوابت منح القدرة أو سلبها في هذا الشأن، ففي التاريخ القديم أسس الفراعنة أقوى دولة على الإطلاق لا تزال أسرارها مجهولة إلى اليوم وحاكمها أكثر بني آدم كفرا بالله وطغيانا وجبروتا، ولم يمنعه كفره من إقامة دولة قوية وإن كانت ظالمة وجائرة، وفي العصر الحديث وبمفهوم الدّولة الحديثة أقامت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر إمبراطورية في العالم ولم يمنعها كفرها وعلمانيتها ونصرانيتها وليبراليتها من ذلك، كما أقام نبي الله سليمان دولة قوية وهو النبي المؤمن وغير بعيد منه أقامت بلقيس الكافرة العابدة للشمس من دون الله دولة قوية ومتحضّرة ولم يمنع هذا إيمانه كما لم يمنع تلك كفرها من إقامة الدولة المتحضرة، فالجدل حول موضوع الإيمان والكفر في التقدم الحضاري للشعوب هو جدل عقيم يطرح القائمين عليه على إحدى ضفتي هامش الحضارة إمّا ضفّة التطرف الديني إسلاميا كان أن يهوديا أو مسيحيا أو التطرف الإيديولوجي المقابل لهذا التطرف الديني.
الأمر الثاني هو أن تتحلّل النخب السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية من جاذبية الإيديولوجيات المحنّطة والعقائد الملوّثة لفائدة العَلَمِ الوطني، وبالتالي الإيمان المطلق بمفهوم الدولة الحديثة التي يدعو لها البعض فوق الطاولة ويحاول تحت الطاولة نسف دعائمها، وإذا كان يُعاب على البعض الولاء للأجنبي دولة كانت أو مرجعية دينية فإن الولاء للإيديولوجيا لا يقلّ خطورة عنه، فالقصور في فهم الدولة لا يقتصر على الإسلاميين فقط، فالمنادون بالحداثة والتنوير هم أول الناس هتكا لمفهوم الدولة ومفهوم المواطنة، وإذا كان الإسلاميون لا يزالون يراوحون في عصر معاوية فإن أدعياء الحداثة لا يزالون يراوحون في عهد فرعون وهامان، “لا أريكم إلا ما أرى”، وإذا كان الفريق الأول يقسّم المواطنين بين مؤمنين درجة أولى ودرجة ثانية، وكفار عليهم دفع ضريبة الجزية، فإن الفريق الثاني لا يعتبرهم مواطنون أصلا، وإذا كان الإسلاميون يعانون من قصور في فهم الدولة الحديثة على مستوى القاعدة فإن الحداثيين يعانون قصورا أعمق ولكن على مستوى النخبة، لذلك نرى أن التيار الإسلامي بدأ يتماهى مع فكرة الدولة وبدأ يشق خطّ السير وإن ببطء، ولكنه يتقدم في حين أن التيار “الحداثي” أو هكذا يسوقون له، مازال يعاني مشكلة عدم قدرة قاطرته المحرّكة على الإشتغال، فإختصار مفهوم الحرية الواسع والشامل والنقي في “المثلية الجنسية” ترفع من أجلها نخبة الثقافة اللافتات، كما نسمع ونرى بعض “منارات” الثقافة والفكر يعتبرون الإعتراف بالمثلية الجنسية شرطا من شروط صحة “التوبة” من فكرة دولة الخلافة، هذه النخبة كان يفترض أن تكرس وقتها وأموال الدولة الداعمة للعمل الثقافي، لإرساء ثقافة الثورة، ثقافة الحرية والديمقراطية والتعايش ونظافة العقل والبيئة والبحث عن أرضية مشتركة يتعايش فيها التونسيون جميعا بكرامة.
الأمر الثالث هو معالجة العلاقة بين المجال السياسي ومسالك السلطة وأوكارها وأعني بذلك الأحزاب ومسالكها المؤدية للسلطة مثل المحطات الإنتخابية وما يتبعها من وسائل دعاية وتعبئة شعبية من ناحية والشأن العقائدي التعبدي المتمثل أساسا في المساجد والنقابات من ناحية أخرى، وضبط مفهوم التحييد بصفة نهائية، أما الحديث عن تحييد الدين عن السياسة فهو حديث أخرق مخالف للدستور من ناحية ويدل إما على التصحر الفكري لمن يطرحه وجهله بالإسلام وشموليته لحياة المسلم، أو على المرض الإيديولوجي الذي سبب لبعض المفكرين والمثقفين إنفصاما في الشخصية.
أخيرا أرجو من كل المثقفين يساريين كانوا أو إسلاميين أو علمانيين أو مسلمين ديمقراطيين أو دكتاتوريين أن يحيدوا المجال العام من ثقافة وتربية ورياضة وإعلام ونقابات… عن مسالكهم للسلطة وأن يحيّدوا السلطة إن تمكنوا منها عن أهوائهم وأحلامهم الشخصية والفئوية لفائدة الصالح العام للمجتمع خدمة لهذا المجتمع الذي مورست عليه كل الأهواء والنزوات ولا يزال يقاوم من أجل مستقبل أفضل يكاد يفقد منه الأمل نهائيا.