تدوينات تونسية

طفولة …

علي المسعودي
كانت أشهر الحمل ثقيلة، مليئة بالمخاوف والهواجس العظيمة، ولكنها مرّت أخيرا بسلام. ففي اليوم الذي سكب فيه البوعزيزي البنزين على جسده، انعكس النور لأول مرة على وجه طفلي الذي وُلِد للتوّ. كان حدثا بهيجا وسط عاصفة من الآلام. وقد اتفقت مع زوجتي على أن يناديه كل منا بالاسم الذي يروقه.. وأذكر أنه كان كثير الصراخ والزعاق إلى حدّ لا يطاق، فكنّا نتركه وننشغل عنه بمتابعة أخبار المسيرات والمظاهرات.. وما إن نفعل حتى نجده قد لاذ بالصمت، وفتح عينيه على سِعِتيهما لكأنه مندهش مثلنا من حال البلد. فقرّرنا أن نترك جهاز التلفزيون مفتوحا حتى أثناء النوم.
قبل هروب بن علي بيوم واحد، كاد أن يودّعنا هو أيضا دون أن نسعد بضحكته الأولى وهي ترتسم على شفتيه. فقد اقتربت الاحتجاجات، ذات مساء، من حيّنا، وسمعنا إطلاقات متباعدة، ثم انتشرت في أرجاء البيت رائحة الغاز المسيل للدموع… أصابنا الهلع. ورأينا الطفل يتعسّر تنفّسه مع الوقت ويكاد يختنق.. هربنا ليلتها إلى بيت جدته في الريف. ولم نعد إلا بعد أن سمعنا بانسحاب وحدات البوليس من البلدة.
كانت أيام حكومة الغنوشي الثانية قاسية على الجميع، وكانت أكثر قسوة على مؤخرة ابني الرضيع. فقد انقطعت فجأة الحفاظات من المحال التجارية. وكان السفر إلى البلدات المجاورة مغامرة غير محسوبة العواقب. فقامت زوجتي بتقطيع لحاف قديم، واستعملته كحفاظات لمرّة واحدة حتى احمرّت مؤخرته وانسلخ جلدها ونبتت فيه البثور.. فتركناه يتبرّز على الأغطية والحشايا، وكنّا نشتمّ رائحة البراز حتى من جهاز التلفزيون أثناء قراءة نشرة الأخبار.
صعد الباجي إلى القصبة فنطق ابني لأول مرّة.. ولم تكن الكلمة التي سمعناها “ماما” كما يفعل الأطفال، بل “ديقاج” وقد سقط منها الحرفان الأوسطان لثقل لسانه.. كنّا نُغرق في الضحك كلّما تلفّظ بهذه العبارة وعلى وجهه مسحة غضب.. وأصبحت بدوري أصيح في وجه زوجتي بنفس الكلمة كلما أثارت حنقي، وكانت تفعل بالمثل.. وهكذا انضاف إلى قاموسنا البيتي لفظ جديد.
جاءت الترويكا إلى الحكم وقد بلغ عامه الثاني، وفي عهدها، لم أكن أعلم هل بدأ طفلي في تعلم المشي أم تعلم الاصدام بالأشياء ؟. وفي المساء كنّا نحصي الكدمات على وجهه، ونتضرّع إلى الله أن يكون عددها أقلّ في مساء الغد.
في عامه الرابع، بدأ ابني يفقد شهيته للأكل وللصراخ، ولم يعد مولعا بمشاهدة التلفزيون كما كان من قبل. لقد انصرف كلّيا إلى الانشغال باللعب القليلة والمعطبة التي لديه، ولا يملّ من محادثتها بلغته الخاصة حتى ظنت أمّه أن عينا شريرة قد أصابته، أو مرض التوحّد قد تملّكه.. ولم يهدأ بالها قليلا إلا بعد أن بدّد الطبيب الذي زارته مخاوفها.
وعندما حَملْتُه إلى الروضة لأول مرّة، رأيت فرحا غامرا في عينيه. وانطلق ينطّ بين الأطفال مثل صغير غزال شارد عاد إلى القطيع..
منذ أيام احتفلنا بعيد ميلاده الثامن. ولكن أمه ظلت، ليلتها، تبكي بكاء يقطع نياط القلب.. فهي مازالت تأخذ ابنها إلى الروضة المجاورة بدل المدرسة بسبب عجزه المستمرّ عن النطق إلا بغمغمة غير مفهومة.. ومازالت تضع له حفاظة كل صباح، وتخفيها بعناية تحت الثياب..
وبرغم البكاء، كانت تقول دائما: إنه النور الذي أضاء عتمة سنيني الماضية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock