مقالات

هيئة الدفاع عندما يلعب الخصم دور القاضي

نور الدين الغيلوفي
رحم الله شهداء تونس جميعهم..
دفعوا دمهم ثمنا لنبنيَ وطنا فانشغلنا من بعدهم بالعراك كصبية تضافرت غرائزهم على إفساد لعبة لهم أو كإخوة اختاروا أن يُتلفوا ميراث أبيهم تحاسدًا من عند أنفسهم..
يبدو أنّ بعض الفِرَق الإيديولوجية قرّرت هدم البيت على جميع ساكنيه بدل ترميمه لينعم الجميع بما فيه.. حتّى على الشهداء نحن لا نتّفق فنمنع الشهادة عن هذا لنخلعها على ذاك في إعادة إنتاج ركيكة لما كنّا فيه من تعلّق بسفاسف الأمور ومن عراك أشبه بعراك دِيَكة لا تعي من أمرها شيئا.. بل لا نكاد نتّفق على الشهادة نفسها.. وإذا كانت الشهادة حضورا فقد اجتمع الفرقاء على الرفث في حضرة الشهداء إمعانا في أذاهم وإلحاق الندم بهم في عالم الماوراء الذي صاروا إليه.
الشهداء ثلاثة:
في عُرف بعض الطوائف السياسية ببلادنا الشهداءُ ثلاثة:
1. لطفي نقّض.. ظلّ شهيدا إلى حين.. حتّى انتهى دوره وجفّت الدموع المأمورة بالسيلان لأجله وبحّت الأصوات الداعية للثأر له وتفرّق الجمع الذي كان حول جثمانه.. وسرعانما ألقوا به في بئر نسيانهم العميقة بعد أن جفّ ضرع نفعه وزال ما كان لهم من خدمة اسمه.. ألقوه في البئر كما فعلَ بيوسف إخوته.. ولن يلقوه ثانية لأنّهم من الآكلين مع الذئاب وإن بكوا مع الرعاة.. والذئاب في الأنحاء كثيرة وقد لبست ثياب الرعاة.. والرجل، رحمه الله، قد خرج من حقل الراعي وغادر مرمى الذئاب.
هؤلاء الآكلون المتباكون ظلّوا توابعَ لمنظومة الاستبداد تستعملهم في المهامّ القذرة حتّى إذا ثبت لها ولاؤهم أخرجتهم منها ليكون منهم الوزراء وكبار المسؤولين ويكونوا تحت السيطرة.. ولمّا قامت الثورة وهرب رأس النظام اندفعوا إلى الصفوف اللأولى يصرخون “بن علي هرب” وازدانت بهم منابر الإعلام ليدرّسوا الناس أسرار الوطنية ويعلّموهم كيف النضال.. وقبضوا ثمن أقوالهم وتناسى الناس ما كان من سابق أمرهم ممّا لا يحكي شرفا…
2. الحاج محمّد البراهمي: هو لدى هؤلاء شهيد ولكن حتّى حين.. حتّى يُفكّ الارتباط بين التيار الشعبي القوميّ العربيّ الناصريّ المستطيع بغيره وبين سلالة اليسار الشيوعيّ الساكن في القرن التاسع عشر الرافض لكلّ مختلف المتعالي على كلّ شريك المستعمِل لكلّ أداة.. السالك لكلّ طريق.. المتسلّل إلى كلّ غاية…
3. شكري بلعيد: الشهيد الأوحد.. كأنّ مفردة الشهادة ظلّت جوفاء تنتظر أن تُملَاَ به دون سواه من الخلق أجمعين.. وقد أحلّوه محلّ سيّد الشهداء حمزة ولم نسمع به وقف في وجه سلطان جائر.. عانى معارضو اليمين واليسار الويلات وظلّ هو يقيم ويسافر ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق في أمن وسلامة.. ولا يدري أحد مَن قتله ولِمَ قتله.. وحتّى من كتب، من تلك السلالة الباقية، كتابا أكاديميا ذكره في صفحة الإهداء منه بالعبارة التالية: ((إلى شهيد تونس شكري بلعيد كنت معنا.. صرت فينا)).. وهي عبارة “شعرية” ركيكة تعبّر عن تزلّف إيديولوجيّ من جامعيّ طلب كفايتي الأدب والإيديولوجيا فلم يحظ بأيّ منهما وإن ظهر على شاشة قناة الجزيرة “يسبل الظلام على الضياء”.. ولو كان له من رجحان العقل نصيب أو من الأدب سهم لما كتب ما كتب في صدر كتابه احتراما لمن يقرأ له ممّن يستخفّ بعبارته الركيكة ويرى من الأمر ما لا يرى..
لا شهيد غيره:
صار شكري بلعيد هو الشهيد الأوحد كأنّه احتكر الشهادة كلَّها وسلبها غيرَه حتى أولئك الذين سال دمهم ليعرفه الناس قياديا يساريا لم يكن يعلم به خارج بهو المحكمة من الناس غير خاصّته..
لقد وُلد الرجل مع موته وكان اغتياله لحظة فارقة في تاريخ الثورة التونسية قلبت الأمور رأسا على عقب.. كانت انتخابات أكتوبر 2011 قد أوصلت حركة النهضة الإسلاميّة إلى صدارة المشهد السياسي فلم يُرْضِ ذلك خصومَها الإيديولوجيين الذين وقفوا وقوفا حرفيًّا عند عبارة سمعوها لكارل ماركس في بعض لحظات فكره” الدين أفيون الشعوب” فجعلوا من أنفسهم حاجزا بين الأفيون وبين الشعب حرصا على العقل المحض الذي يبشّرون به ولا يخضعون له في قول ولا في عمل.. ولذلك فقد راحوا يفتّشون عن طريقة للخلاص من تلك الحركة نهائيا.. وحتّى يبرّروا سعيهم الذي لا يعيشون لغيره فهم حريصون دوما على وصفها بـــ”الدينية”.. ولمّا كانوا هم رسلَ الأنوار فقد أضافوا إليها صفة “الظلامية”..
مات شكري بلعيد ولن يعود.. وإذن فلا بأس من استثمار موته للخلاص من هذا الخصم المزعج.. وكانت الفرصة سانحة ليعلّقوا على باب الوطن سؤالًا لهم لا يعنيهم جوابه “آش كون قتل شكري؟”.. إذ هم قد قرّروا أن يتّهموا النهضة بالفعلة وأرادوا للكون بأسره أن يرى رأيهم وأن يتّهم النهضة بقتل الرجل وأن يصدر حكما باتًّا لا استئناف عليه ولا نقض له.. وإلّا فإنّ الأمن متآمر والقضاء متستّر والرئاسة مشاركة والحكومة متخاذلة والحياة لا تُنصِف والآخرة لا تجدي..
من هو شكري بلعيد؟
لم يكن لشكري بلعيد في زمن الترويكا التي جاءت بها انتخابات 2011 ذلك البريق الذي جُعل له بعد موته كأنّه تشي غيفارا أو نيلسون مانديلّا.. كان ناشطا سياسيا عاديا بل أقلَّ من عاديّ لا يرتفع أداؤه إلى إزعاج أحد ولا إلى التنغيص على طرف شأنه شأن غيره من الأصوات التي كانت ترتفع ضدّ حكم الترويكا ولا تتوقّف عن مهاجمة حركة النهضة التي تستفيد من مهاجميها أكثر من أنصارها.. عرفه الناس من خلال المنابر الإعلامية يؤتى به ليتحدّث حديثا يروق للبعض ولا يروق للبعض الآخر مثل غيره من السياسيين.. ولكن بعد موته جعلوا منه أيقونة اختزلوا فيها معنى الشهادة وخلعوا على اسمه الباقي لديهم أوهاما تحار فيها الأفهام.. بل اتّخذوا من دمه منجما لا تنتهي مكاسبه وحقلا لا حدّ لجنيه.. واشتغلت آلات النزف.. والرفاق لا يشبعون.. يَنْزِفون ولا يُنزَفون…
لماذا قُتل؟
من نافل القول أنّ البحث في قضايا الاغتيال يبدأ بالإجابة عن سؤال: من المستفيد؟ ولكنّ هؤلاء لا يَسألون.. ومن العقل أن نقول بدءا إن حركة النهضة كانت أكبر من تضرّر من حادثة الاغتيال تلك.. خرجت بسببها من الحكم وتخلّت عن مواقعها التي أوصلها الشعب إليها عبر انتخابات حرّة نزيهة.. وانحنت للعاصفة.. ولكنّ عقل هؤلاء يرى ما لا ترى العقول..
وكان لا بدّ من البحث عن الجناة ولا أحد ضدّ تطبيق القانون ولكنّ تطبيقه يقتضي أجهزة مستقلّة تطبّقه.. غير أنّ رفاق الفقيد اختاروا المسير في طريق أخرى.. وقد سدّوا جميع الطرق الموصلة ما عدا تلك التي تنتهي إلى إدانة النهضة.. ولن يرضوا بالسير في غيرها حتّى إذا كانت متعرّجة.. وهم يبذلون لأجل ذلك جهودا خرافية لا تكاد تتوقّف.. وليس أقدس لدى هؤلاء من استئناف محرقة يكون الإسلاميون ضحاياها..
معركة الانقلاب على الثورة:
لن أذهب إلى أنّ هؤلاء هم الذين قتلوا رفيقهم ولكنّني أظنّهم يعلمون من قتله ويتستّرون عليه لأنّ إدانته لن تكون مفيدة لهم.. وقد أزمعوا استثمار دمه إلى النهاية.. ولن يرضى هؤلاء بغير الانقلاب على المسار الديمقراطي الذي تبيّن لهم أن لا مكان لهم فيه لأنّهم عاجزون عن تحقيق المطلوب الديمقراطي قاصرون عن إقناع الناس بأنفسهم لتهافت أطروحاتهم وفساد منطقهم واختلاط عقلهم وتهافت خطابهم.. وهم يدركون أنّ سقوط المسار سيؤدّي حتما إلى عودة النظام القديم أكثر شراسة مثل ما نرى في الحالة المصريّة.. يدركون ذلك ولعلّهم يسعون إليه إذ أنّ كثيرا منهم لم يكونوا في تناقض مع النظام النوفمبري.. وهم إن لم يكونوا جزءا منه فقد كانوا يعيشون على هامشه وبفضله.. ولعلّهم فهموا بعد قيام الثورة، وقد عجزوا عن احتلال مكان لهم يرضي غرورهم ضمن المشهد الجديد، لعلّهم فهموا أنّ أنسب نظام لهم هو نظام بن علي ذاته ولا نظام يوافقهم سواه.. استعملهم نعم ولكنّم استعملوه أيضا.. به تخلّصوا من التيّار الديني الظلاميّ وخلا لهم المجال يرتعون بلا منافس.. وسيطروا على الثقافة وخيّموا على التربية واحتكروا النقابة واستعملوا القضاء وتسلّلوا إلى الأمن.. وكانوا أهل دار وحظوة يأكلون ويشربون ويتناسلون ويثرثرون.. وكأنّهم انتبهوا، بعد فوات الأوان، إلى أنّ الثورة قد قامت عليهم عندما قامت على نظام المخلوع…
لك أن تسأل: ما الذي خسره هؤلاء بسقوط النظام وما الذي ربحوه من الثورة؟ وبتتبّع السؤال ستجد أنّهم من أبرز المتضرّرين من الثورة الخائفين من تداعياتها.. الثورة تسعى إلى فرض منطقها ووضع شروطها.. ومن شروطها الحرية تحت سقف القانون والتداول السلمي على السلطة وفق آلية الانتخاب.. وهؤلاء لا يؤمنون بالحرية لغير أنفسهم ومن سار على نهجهم ولا يستطيعون الانتخابات لأنّ رصيدهم الشعبي صفر بسبب تعاليهم على الشعب من ناحية ولكونهم جزءا من النظام القديم بشكل أو بآخر من ناحية ثانية.. رهانهم الوحيد احتقار وعي الناس وعدم تحيينهم لموقفهم من الشعب الذي لا يعرف الماديّة الجدليّة ولا دراية له بالاقتصاد السياسيّ…
عند أوّل لحظة شاع فيها خير اغتيال بلعيد ظهرت صرخة “ياغنّوشي يا سفّاح ياقتّال لرواح” كأنّ الشعار جاهز سلفا.. وفي كلّ مرّة كان رفاق المرحوم شكري بلعيد يبحثون عن ذريعة ليجدّدوا اتّهامهم للنهضة.. ومن اللافت أنّهم صرّحوا في أكثر من مناسبة بأنّ النهضة ليست معنية بالمسؤولية الجزائية بل إنّ مسؤوليتها سياسية فقط ولكنهم سرعانما تراجعوا عن ذلك ليستأنفوا اتّهامها بمسؤوليتها الجزائية عن الاغتيال.. وحتّى رئيس هيئة الدفاع عن الشهيدين صرّح مرّة بأنّ الجهاز السرّي المزعوم لا علاقة لقيادات النهضة ولا لقواعدها به.. ثمّ ما لبث أن تراجعَ بعد ذلك ليعاود اسطوانة الاتهام الأولى.
الجهاز السري والغرفة السوداء لماذا؟
لم تنجح الأطراف التي تزعم أنّها معنيّة بكشف الحقيقة في جميع مساعيها فعادت إلى اجترار سيناريوهات قديمة كان بعض اليسار يضعونها لبن علي من أجل أن يجد ذريعة لاستئصال حركة النهضة في تسعينات القرن الماضي.. اليوم عاداو إلى مسألة الجهاز السري وطعّموه هذه المرّة بالغرفة السوداء التي زعموا وجودها بوزارة الداخلية وقالوا إنّها تتضمّن وثائق الاتّهام وأسرار الجهاز.. أجزلوا التّهم لحركة النهضة أقاموا لها محاكمة على المنابر الإعلامية وطالبوها بالإجابة عن لوائح أعدّوها لاتّهامها.. ولمّا لم يلقوا جوابا عن أسئلتهم تناسلت ندواتهم وتضاعفت مزاعمهم.. وتحوّلت النزُل والأماكن الخاصّة والعامّة إلى محاكم لرمي التهم على الناس.. وبدل أن تجتهد هيئة الدفاع عن الشهيدين لكشف الحقيقة انشغلت بالتلبيس والتدليس حتّى باتت موضوعا للتندّر من قبل كثير من المراقبين وانتهى الأمر بالناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمّة الهمّامي إلى أن أماط اللثام عن حقيقة مقصدهم عندما صرّح بأنّ راشد الغنّوشي هو رئيس الجهاز السرّي المزعوم.. ووقتها صحّ أن نقول: “آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجله”.. ولولا أنّ الغنّوشي لا يعبأ بالهمّامي ولا يلتفت إلى ما يقول لاشتعلت نيران التصريحات والتصريحات المضادّة بين أنصار النهضة وأنصار الجبهة الشعبية ولوقفت البلاد على باب الاحتراب الأهلي…
أسئلة تحتاج هيئة الدفاع أن تجيب عنها:
إلى جانب الأسئلة المتداولة في الموضوع والتي طالما قرأناها وسمعناها.. ما هي درجة الخطورة التي كان يمثّلها شكري بلعيد حتّى يسعى حزب حاكم بحجم حزب حركة النهضة إلى تصفيته؟ ولماذا؟ أما كان للأمر أن يكون مسبوقا بدراسة جدوى؟
هل يُعقَل أن تكون حركة النهضة بهذا الغباء حتّى تغتال معارضيها في زمن حكمها العصيب؟
لعلّ تراث الغرفة السوداء أن يجيبنا يوما.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock